جكرخوين: قلب لم ينطفئ

بقلم: د. عدنان بوزان

أيها الشاعر الجليل، يا من سكنت القلوب، في هذا اليوم الحزين تتجدد الذكرى. ذكراك، يا جكرخوين، لا تفارق أرواحنا؛ فقد مضى أربعون عاماً على رحيلك، وما زالت كلمتك تتردد في الأذهان.

من قلب كوردستان، من قرية هساري، جئتَ كطائر يشدو بأغاني الحرية، لكن القدر كان قاسياً؛ فقد وُلدت في زمن مُعتم، زمن الفقر والحرمان، لكن روحك كانت تضيء الدرب.

كم عانت أيامك، من فقدان والديك في ريعان الصغر، وانتقالك بين القرى بحثاً عن هوية ضائعة. لكن في أحشاء المعاناة، تفتحت كلمتك كزهرة في شتاء قارس.

كتبتَ شعرك بدمك، وسجلت حكايات الشوق والألم، وفي كل قصيدة كان هناك نداء للحرية، صدى لأحلام كوردستان، تتجلى في حروفك، مثل غيمات تتراقص فوق الجبال.

كم كان جهادك شاقاً، وأنت تعاني من الظلم والملاحقة، لكن عزيمتك كانت أكثر قوة. فقدتَ حريتك، لكنك لم تفقد روحك. كانت كلماتك سلاحك، وأناشيدك نوراً يهتدي به الشعب.

في يوم وداعك، يا جكرخوين، تآمرت السماء والأرض على البكاء. كانت دجلة والفرات، نهرين عظيمين، يشهدان على حكايات شعبٍ أنهكته الآلام، وحلمٍ زُرع في قلوبهم، لكن الغيوم كانت تسرق الألوان، وتجعل من السماء ثوباً أسود يليق بحزنك.

تساقطت دموع الأنهار كعزف حزين، يروي قصة شاعر لم تُمحَ كلماته من ذاكرة الأوطان. كان صوتك نغمة تتراقص في أذهاننا، تُذكِّرنا بأن الحلم، مهما كان بعيداً، يستحق الانتظار. كم كنتَ القلب الذي ينبض بشغف الهوية، والحنين إلى وطنٍ يعيش في عمق أرواحنا. ومهما بعدت المسافات، فإنك كنت دائماً أقرب مما نعتقد.

في لحظات الفراق، تناثرت الأشجار حزناً، وكأنها تعزف لحن وداعٍ، تغني لأرضٍ عانت في صمت. كيف ننسى أنفاسك، يا من كتبت شعرك بدمك، ورسمت أحلامنا بألوان الألم؟ في كل بيتٍ، وفي كل زقاقٍ، ما زالت كلماتك تتردد، كأنها صدى لا ينقطع، تحكي قصص الغربة والمعاناة.

في غيابك، تصبح الأسماء بلا معانٍ، والقصائد مجرد حروف تتبعثر في الهواء. لكنك، يا جكرخوين، ستظل في قلوبنا، سكنى لا ترحل. فكلما أشرقت شمس الصباح، وكلما تراقصت الأضواء على وجه الليل، ستبقى ذكراك حية، تنير الدروب التي مشيتها، وتخمد نار الحزن في أرواحنا.

يا من كنتَ القلب الذي لا ينطفئ، لن ننسى ضحكتك التي كانت تتسلل إلى قلوبنا، كنسيم صيفٍ عابر. وستبقى قصائدك خالدة، تشدو بأحلام الحرية، تعيد إلى الأذهان صور العزيمة والإصرار. فالذكرى ليست مجرد كلمات، بل هي أغنية تُغنى في كل زاوية من زوايا كوردستان. لن تغيب عن ذاكرة الأجيال، بل ستظل دائماً تتردد في الهواء، تُحلق كالعصافير في فضاء لا نهاية له.

ومهما تباعدت المسافات، سنبقى نحتفل بك، نروي حكاياتك للأبناء والأحفاد، ونحكي لهم عن شاعر عاش من أجل وطنه، ورسم الأحلام بلون الألم. في كل سطر كتبتَه، كانت هناك روحٌ تُحلق، وهتافٌ للحياة، وحكايةٌ لا تنتهي.

في الثاني والعشرين من تشرين الأول، يحيي الأدب الكوردي ذكرى رحيل أحد أعظم شعرائه، الشاعر الكبير جكرخوين، المعروف بلقب "القلب الدامي". فمنذ رحيله في عام 1984، لا تزال كلماته تتردد في الأذهان، وتنبض في قلوب الأجيال المتعاقبة. يُعتبر جكرخوين رمزاً للحنين والوطن، وصوتاً مفعماً بالعاطفة والجمال.

وُلد جكرخوين، واسمه الحقيقي شيخموس حسن علي، عام 1903 في قرية هساري التابعة لمدينة باطمان في شمال كوردستان. منذ نعومة أظفاره، شهدت حياته تقلبات وصعوبات جعلت منه إنساناً يعكس معاناة شعبه. فقد وُلد في زمن كانت فيه الأحلام الكوردية تعاني من قسوة الواقع. هاجرت أسرته بعد فترة قصيرة إلى غرب كوردستان، حيث استقرت في مدينة عامودا، لكن هذه الهجرة لم تكن إلا بدايةً لرحلة طويلة من التشتت والبحث عن الهوية.

عاش جكرخوين طفولة مليئة بالفقر والعوز، حيث فقد والديه في سن مبكرة، مما دفعه للتنقل بين القرى والبلدات الكوردية، لكن هذا لم يثنِ عزيمته عن مواصلة تعليمه. كانت لهفة المعرفة تتقد في صدره، وبدأ يكتب الشعر في ريعان شبابه، وذاع صيته بسرعة بين الناس. لم يكن جكرخوين مجرد شاعر، بل كان قائداً ثقافياً أسهم في النهضة القومية الكوردية، وعبّر بقصائده عن آمال وتطلعات شعبه نحو الحرية والاستقلال.

تُعتبر قصائد جكرخوين مرآة لجمال كوردستان وطبيعتها الخلابة، حيث اتسمت بالجزالة والفصاحة، وطرحت مواضيع تتعلق بالوطن والحب والتضحية. استخدم أسلوباً فنياً مميزاً يمزج بين الكلاسيكية والحداثة، مما جعله يتمكن من الوصول إلى قلوب جماهيره. كانت كلماته تُغنى من قبل كبار الفنانين الكورد، وتحولت إلى أغاني عذبة تتردد على كل لسان.

تجسدت كلماته في قصائد غزلية رقيقة تعبر عن المشاعر الإنسانية العميقة، مثل الحزن والفرح والحنين. ولكن، رغم هذه الجماليات، كان وراء كل قصيدة قصة مؤلمة، قصة حياة كافح فيها جكرخوين ضد القمع والملاحقة. عانى من الاعتقالات والمطاردات بسبب مواقفه السياسية، لكنه لم يتراجع عن رسالته، بل استمر في الكتابة حتى آخر أيام حياته.

توفي جكرخوين في ستوكهولم، في 22 تشرين الأول من عام 1984، تاركاً وراءه إرثاً أدبياً خالداً يضم أكثر من 37 كتاباً، منها تاريخ كوردستان ودواوين شعرية متنوعة. تم نقل جثمانه إلى مدينة القامشلي حيث وُوري الثرى في باحة منزله، في موكب مهيب لم تشهد منطقة الجزيرة له مثيلاً.

اليوم، بعد مرور 40 عاماً على رحيله، لا يزال جكرخوين يتربع على عرش الشعر الكوردي، ويعتبر واحداً من ملوكها الذين يُحتفى بذكراهم في كل عام. تظل كلماته خالدة في وجدان الشعب الكوردي، وتمثل صرخة مقاومة ضد الظلم، ودعوة للحرية، وتأكيداً على الهوية. إن ذكرى جكرخوين ليست مجرد ذكرى لرجل، بل هي احتفال بجمال اللغة الكوردية، وبقدرة الشعر على تجاوز الزمن، واستمرار صدى الكلمات العميقة في قلوب الأجيال المتعاقبة.

ــــــــــــــــــــــ

 قصيدة رثاء لجكرخوين

في يومٍ حزين، أتيتُ أُجَددُ الذكرى،

أذكرُ شاعراً في قلوبنا نبضه، يذكرُنا،

جكرخوين، يا من كتبتَ بحروف الهوى،

في كل كلمةٍ منكَ، كانَ الحُزن يُرتجى.

يا ابن هساري، يا قلباً من الألم،

تبدد الفقر عينيك، لكنك كنتَ الصنم،

أنتَ صدى الوطن، أنشودة الفؤاد،

كتبتَ عن كوردستان، في الفجر والغسق،كانَ الهُتاف.

أيها الشاعر، يا نبض الجبال،

عذوبة كلماتك، غنت بها الليالي،

سارت الأشجار خلف نغمة أشعارك،

ففي كل سطرٍ، كان للحُلم أن يُنادي.

تجول في القرى، تُنادي في السهل،

بحثاً عن وطنٍ، كان في القلب يُعجّل،

تتحدى الظلم، تصنع الفجر الجديد،

بكلماتك القوية، كأنك نهرٌ يجري.

أنتَ روحُ المقاومة، رمزُ الاستقلال،

في عيون أطفال كوردستان، كنتَ الأمثال،

زهراً ينبت في تربة الأمل،

يا جكرخوين، لا تنطفئ أنوارك أبداً.

حملتَ الحلم على كاهلكَ الشامخ،

فكل قصيدة كانت لكَ علامة،

تسير بنا نحو غدٍ مشرق،

وكل جرحٍ يلتئم بذكركَ العظام.

وفي ستوكهولم، غادرتَ الحياة،

لكن روحك تُحلق بينَ الجبال،

محفورةٌ في القامشلي،

أنتَ هنا، في كلِّ زاويةٍ، في كلِّ جال.

سنرفع الأعلام، نُشعل الشموع،

نتغنى بحياتكَ، في كلّ حواراتِ الجموع،

أنتَ ملك الشعر، لن ننسى البكاء،

سنحيا لأجلكَ، بكلِّ الوفاء.

أيها القلب الدامي، أيها الشعر النقي،

في رثائك نُدرك كيف يُكتب الحُب،

سنحمل رسالتك، كحلمٍ يُخَلَّد،

وما زالت كلماتك في قلوبنا تَحفُرُ.

يا جكرخوين، يا من لن تُنسى أبداً،

ستبقى في قلوبنا، تسكن الفؤاد،

كلما جاءَ الليل، وتوهجَ الفجر،

سنُغني لكَ، نبضاً خالداً، بلا انتهاء.

في يوم وفاتك، يا جكرخوين

بكت دجلة والفرات، وكل كوردستان،

تساقطت دموعها كالمطر،

تناديك يا شاعر الأوطان،

يا من حملت هموم شعبك في كلماتك،

وخططت آلامهم على صفحات الزمن.

في ذلك اليوم الحزين،

توقفت الساعات عن الدوران،

وتعانقت الأنهار بأحزانك،

كل جسرٍ وكل حجر،

كان يحمل صدى صوتك،

أغاني الحرية، نداءات الأمل.

أنت الذي نثرتَ الحب في سطور شعرك،

وصور الجمال في عيون النغم،

فكيف لنهرين عظيمين

أن لا يذرفا الدموع لرحيلك؟

لقد كنتَ القلب النابض لبلادٍ

تشرب من نبع عزيمتك.

يا جكرخوين،

أنتَ اليوم في قلوبنا،

تعيش في كل بيتٍ وكل ركن،

ورغم الفراق،

ستظل أصداء قصائدك

تتردد في زوايا أرواحنا،

تُلهم الأجيال، وتدعوهم للمضي قُدماً نحو الحرية.

في كل كلمة خطتها يداك،

هناك ذكرى، هناك صرخة،

لن ينسى التاريخ صوتك،

فأنتَ الخلود،

وأنتَ الأمل.

 

أضف تعليق


كود امني
تحديث

X

تحذير

لا يمكن النسخ!