رقصة بين الموت والحياة.. حكاية الجوع والخذلان

بقلم: د. عدنان بوزان

في أحد الأحياء البسيطة لمدينة دمشق القديمة، حيث الطرقات الضيقة تعانق السماء المتعبة، والمنازل المتلاصقة تكاد تسرد تاريخاً عريقاً يغطيه الغبار. كانت أم عمر تحتضر في غرفة صغيرة، تضيق بها جدران البيت الذي شرب من تعبها سنوات طويلة. صوت الرياح يختلط بأنفاسها الضعيفة، وكأن السماء تشاركها شهقات الوداع. جسدها النحيل مرهق من الجوع والمرض، عيونها غائرة تبحث عن بصيص من الحياة في قلب الظلام. كانت الثورة السورية قد قلبت حياتها رأساً على عقب؛ الأمل الذي كافحت من أجله تحول إلى جوع وخوف، واليوم يتسلل الموت إليها ببطء كما تسللت الأحلام الخائبة إلى كل بيت في ذلك الحي.

تنامت في رأسها صور أبناءها الذين تركوا البيت واحداً تلو الآخر. أبو عمر استشهد منذ سنين طويلة في المعركة الأولى، فكان عليها أن تحتمل مصاعب الحياة وحدها. أما ابنتها الكبرى "حنان"، فقد زُفت قبل يومين، تلك اللحظة التي كان يجب أن تكون واحدة من أسعد أيام حياتها كانت في الحقيقة مريرة عليها. لم يكن هناك طعام كافٍ لتحضير وليمة الزواج، ولم تستطع حتى شراء ثوب جديد لابنتها. كانت تشاهد الفرح المصطنع على وجوه الجميع بينما بطنها الخاوي يصرخ من الألم.

في الزاوية الأخرى من الغرفة، يجلس عمر، ابنها البكر، بوجهٍ جامد وعيونٍ فارغة. كان قد ودع الثورة منذ زمن، وقرر أن يمضي حياته بطريقته، بعيداً عن معارك الشوارع والسياسة التي أرهقت الجميع. وبينما أمه تحتضر على الفراش، كان يرتدي بدلته السوداء، متجهاً إلى حفلة زفاف أخته التي تزوجت منذ يومين لكن احتفالات العائلة لازالت مستمرة. كانت القاعات المضيئة بالأنوار والزينة تنتظره ليشارك في الرقص والغناء. لقد أراد الهروب من كل هذا، من الألم والجوع والموت المتربص، فغرق في حياة لا مبالية، يبحث فيها عن بقايا سعادة زائفة.

ساعات مرت، كانت الأم تستعد للرحيل، وذاكرتها تجول بين لحظات الحياة، بين صرخات الأطفال وضحكاتهم، وبين ليالٍ طويلة من السهر والعمل لأجلهم. تذكرت عمر حينما كان طفلاً صغيراً، كيف كان يبكي ليلاً جائعاً، وكيف كانت تحتضنه بقوة وتغني له حتى ينام. والآن، هو بعيد عنها، يرقص بين الأضواء ولا يبالي لموتها.

في الخارج، صوت الموسيقى يعلو شيئاً فشيئاً، مختلطاً بأصداء المدينة التي تحترق في قلب الثورة. كانت الحفلة تضج بالضحك والغناء، والكل يرقص وكأن الحياة لم تعد تحمل لهم شيئاً سوى لحظات الفرح المؤقتة. عمر كان في قلب ذلك المشهد، يرقص وكأنه يحاول نسيان كل شيء. غاب في دوامة الرقص مع الأصدقاء، وكأن الموسيقى تقتل كل صرخة جوع تعتمل في صدره.

ولكن شيئاً في داخله كان يئن. كلما التفت إلى عيون الراقصين حوله، تذكر عيني أمه التي تركها وحدها، تموت جوعاً في فراشها البارد. أراد أن يهرب من ذلك الشعور، أن يتجاهل، أن يعيش لحظات خالية من الحزن. لكنه لم يستطع.

وبينما كانت الساعات تمضي، وفي تلك اللحظة التي اجتاح فيها الموت غرفة الأم، كانت الموسيقى قد بلغت ذروتها في الحفلة. شعر عمر بشيء ما في داخله ينكسر، توقف للحظة، شعر بنبضات قلبه تتسارع، كأن جسده أدرك ما حدث قبل أن يخبره أحد. وقف في منتصف القاعة، محاطاً بالضحكات والأنوار، لكنه شعر بالفراغ يتسرب إلى داخله.

وفي الغرفة المظلمة، كانت الأم قد أغمضت عينيها للمرة الأخيرة، تاركة وراءها حياة مليئة بالحب والتضحيات، وموجوعة من خذلان ابنها الذي فضل الرقص على وداعها.

في تلك اللحظة التي انكسرت فيها أم عمر عن هذا العالم، كانت الروح تغادر الجسد بصمت يشبه همس الليل عندما ينتهي ضجيج النهار. شعرت بالغربة حتى في موتها، وهي تعرف أن الفراق كان أكبر من أن يُختصر في دمعة أو كلمة وداع. جسدها الذي حمل الألم سنيناً طويلة بات مستسلماً للمصير المحتوم، أما قلبها، فقد ظل يبحث عن ذاك العناق الأخير، عن كلمة حب من عمر، الذي كان يوماً كل عالمها.

كان عمر لا يزال وسط القاعة، محاطاً بالفرح المصطنع، وأطياف الضحكات تلتف حوله كما يلتف الشوك حول زهرة. لكنه لم يعد يرى الألوان أو يسمع الموسيقى. تسرب إلى أعماقه إحساس خانق، كأن شيئاً أثقل من الهواء يحيط به. تقدم بخطوات مترددة نحو الباب، دون أن يلتفت إلى الوراء. أراد الخروج، الهروب، ولكن ليس من الرقص أو الضحكات، بل من نفسه، من الخذلان الذي اجتاحه فجأة.

حينما وصل إلى البيت، كان الهدوء يملأ المكان، هدوء بارد، لا يوحي بأي حياة. فتح باب الغرفة ببطء، وخطواته كانت تئن تحت وطأة الذنب. هناك، على الفراش، رأى جسد أمه مسجى، وجهها الذي كان دائماً مصباحاً في ظلام أيامه، أصبح شاحباً، كأن الحياة قد تركته بلا وداع. دموعه، التي جفت لسنوات، بدأت تتساقط بلا توقف. حاول التحدث، لكن الكلمات علقت في حلقه، وكأنها تعلم أنه تأخر كثيراً.

جلس بجانبها، أمسك بيدها الباردة، وكأن لمسة يده قد تعيد شيئاً من الحياة إليها. "سامحيني، يا أمي"، همس بصوت مختنق، لكن الصوت لم يكن أكثر من صدى في غرفة خالية من الروح.

في الخارج، خفتت أصوات الموسيقى، وعاد الصمت إلى الحي الضيق. لم يكن هناك ضجيج سوى صوت الريح، تحمل معها رائحة الموت والحياة، وكأن المدينة كلها ترقص بينهما.

أضف تعليق


كود امني
تحديث

X

تحذير

لا يمكن النسخ!