صدى الكلمات في زمن الصمت
بقلم: د. عدنان بوزان
في غمرة الحياة، حيث الأفكار تتشابك والقلوب تتعب من البحث عن معانٍ حقيقية، أجد نفسي أقف على أطلال الكلمات، أتساءل: ولمن أكتب؟ أكتب لعالم يغرق في سطحية المعتقدات ويضيع بين زخرفة الأقوال والأفعال، لأناس يصابون بالصداع من مجرد فكرة القراءة، يفضلون العيش في ظلال الجهل على أن يسبروا أغوار العلم والمعرفة.
أكتب لبشر يعظمون الشخص على ما قيل، لا على ما فعل حقاً، يتبعون الأساطير والخرافات كمن يتبع السراب، متعطشين لقصص يضيع فيها الواقع بين طيات الفنتازيا. يصدقون أساطير تنسج من خيوط الجهل، تبعدهم أكثر فأكثر عن جوهر الحياة الحقيقي.
أكتب في زمن يعتقد البعض فيه بوجود عبقري أو قائد أو مخلص يستطيع بيده تغيير مجرى التاريخ، دون أن يدركوا أن التغيير يبدأ من داخل كل واحد منا، من تحملنا لمسؤولية أفعالنا وقراراتنا.
ولماذا أكتب، في عالم يبدأ فيه التصفيق لمجرد ومضة غزلية ركيكة، أو صورة تم التلاعب بها لتظهر جمالاً زائفاً؟ عالم يتحول فيه الإنترنت إلى مكان يعبر فيه الناس عن كبتهم ويفضحون أسرارهم في الظلام، بينما النور الحقيقي للمعرفة يظل مطفأً.
وأنا هنا، على مشارف اليأس من كل شيء، حتى من جسدي الذي أصبح سجيناً لرغبات لا تُشبع، وأحلام تتلاشى في الزنزانة التي أعيش فيها، زنزانة تسلب مني القدرة على كسر قيودي وفتح باب الحرية الصدئ.
أكتب، رغم كل شيء، كمحاولة يائسة للتمسك بخيط من الأمل، بلعل وعسى أن تجد كلماتي طريقها إلى قلب شخص ما، لتوقظ فيه الرغبة في التغيير، في البحث عن الحقيقة والجمال الحقيقي في هذا العالم. أكتب لعل الكلمات تصبح جسراً نعبر من خلاله من اليأس إلى الأمل، من الظلام إلى النور.
لكن القلم يثقل في يدي، والحبر يجف قبل أن تترجم الأفكار إلى كلمات على الورق. أحاول أن أرسم صورة لعالم يستحق الحلم به، عالم يعلو فيه صوت العقل والمنطق على صخب الجهل والتعصب. أكتب بحثاً عن شعاع ضوء في نفق اليأس الطويل، علّني أجد في نهايته معنى يستحق العيش من أجله.
في الأعماق، أعلم أن كل حرف أسطره هو صرخة في وجه العدم، تحدٍ للسكون الذي يغلف الأرواح المتعبة. أكتب لأن في الكتابة تحريراً للنفس من أغلال الصمت، وفي كل جملة أمل بأن يكون غداً أفضل من اليوم.
مع كل كلمة أدونها، أدرك أنني لا أكتب لمن لا يقرأون أو لمن يفضلون البقاء في ظلام الجهل. بل أكتب للأرواح الباحثة عن الضوء، للقلوب التي ما زالت تنبض بالأمل، للعقول التي تجرؤ على التساؤل والبحث عن الحقيقة.
أكتب كي أذكّر نفسي والآخرين بأن الحياة، رغم كل تعقيداتها وآلامها، ما زالت تحمل في طياتها الجمال والمحبة والإمكانيات اللامتناهية للنمو والتطور. أكتب لأعلن رفضي لليأس، لأقف بوجه الظلم والتشاؤم، مسلحاً بالكلمة، أقوى أسلحة الروح.
وفي نهاية المطاف، أدرك أن الكتابة ليست مجرد عمل من أعمال الفن أو التعبير عن الذات فحسب، بل هي مهمة، رسالة يجب أن تستمر، حتى وإن بدا أن لا أحد يستمع. فربما، يوماً ما، تجد الكلمات طريقها إلى قلب يحتاجها، توقظ فيه الإحساس بالحياة مجدداً، تمنحه القوة ليكسر قيوده ويفتح باب الحرية لنفسه وللآخرين.
أكتب لأن في الكتابة إيمان بأن الغد يمكن أن يكون أفضل، أن الحب والجمال والحقيقة يمكن أن ينتصروا في النهاية. ورغم كل شيء، يبقى الأمل متوهجاً في القلب، مهما كانت الظروف. ولذا، مهما ضاقت الدروب، وتكالبت الهموم، أواصل الكتابة، كفعل من أفعال..