نجوم في بحر الغربة
بقلم: د. عدنان بوزان
في غفلة من الزمان، حيث تسكن الروح غربة لا تعترف بحدود الأمكنة، ولا تستكين لمراسم الأزمنة، تجد نفسها غارقة في بحر من الأحاسيس المتضاربة. كانت تلك الروح تعيش على هامش الحياة، تنظر إلى العالم من خلال نافذة ذكرياتها المغبرة، حيث تتراكم تجاعيد الزمن كأنها خرائط لأراضٍ مجهولة.
في كل دمعة تسقط على غبار السنين، تُزهر قصة لم تُروَ، قصة حب كانت أو أمل ضائع في زحمة الأيام. تلك الدموع ليست مجرد ماء يغسل وجه الأرض المتعب، بل هي نبض الروح التي تبحث عن معنى لوجودها في هذا الكون الفسيح.
تبكي الروح على غبار السنين ليس حزناً على ما فات، بل شوقاً لما هو آت. ففي كل دمعة، هناك رجاء بأن الغد سيكون أكثر رأفة، أن الضوء سيجد طريقه خلال الظلام الدامس الذي يحيط بها. إنها غربة الروح التي تجعل القلب يتوق إلى الانتماء، إلى مكان يمكن فيه للروح أن تستريح، وللقلب أن يطمئن.
ولكن، ألا يكمن جمال هذه الغربة في البحث نفسه؟ في الرحلة عبر الأزمان والأمكنة، بحثاً عن الإجابات التي قد لا نجدها أبداً؟ إنها حكمة فلسفية غريبة تعلمنا أن القيمة ليست دائماً في الوجهة، بل في الرحلة نفسها. في كل تجاعيد الزمن التي تختزل قصصاً لم تُحكَ بعد، وفي كل دمعة تسقط، يكمن إيمان عميق بأن هناك شيئاً أكبر ينتظرنا، شيء يستحق كل هذا العناء.
في غربة الروح، نتعلم أن الحياة ليست مجرد مسيرة نحو الموت، بل هي رقصة مع الزمن، تارة على إيقاع الفرح وتارة على نغمات الحزن. وفي هذه الرقصة، نجد معنى لوجودنا، نجد أنفسنا.
ومع كل خطوة في هذه الرقصة المعقدة مع الزمن، تتعلم الروح أن تعانق غيمات الأمل، حتى وإن كانت السماء ملبدة بغيوم اليأس. ففي أعماق غربتها، تكتشف أن الضوء يكمن في الداخل، في الشرارة الصغيرة التي ترفض أن تخبو، التي تصر على الإشراق في أحلك اللحظات.
تعلمنا غربة الروح أن لكل دمعة معنى، ولكل ضحكة وزن، وأن الحياة، بكل ما فيها من تناقضات، تبقى جميلة بأسرارها ومعجزاتها الصغيرة. إنها تعلمنا أن نقدر اللحظة، أن نعيش الآن بكل ما فيه من عذوبة ومرارة، لأنه في النهاية، الآن هو كل ما لدينا.
إن غربة الروح ليست سوى دعوة للبحث عن الذات في عالم يغرق في الضوضاء والفوضى. هي دعوة للتأمل في معنى الحياة والوجود، وفي كل مرة نظن فيها أننا وجدنا الإجابات، نكتشف عوالم جديدة من الأسئلة. فالحكمة الفلسفية الغريبة التي تقدمها لنا غربة الروح هي أن الإنسان في بحثه الدائم، يصبح أكثر إنسانية، أكثر اكتمالاً.
وهكذا، في غبار السنين وتجاعيد الزمن، تبقى الروح تبحث، تتألم، تحب، وتحلم. لأن في قلب هذه الغربة، تكمن حقيقة عميقة: أن الجمال الحقيقي للحياة يكمن في السعي وراء الفهم، في الرغبة الدائمة لاكتشاف ما هو أبعد من الظاهر، وفي الإيمان بأن كل نهاية هي في الواقع بداية جديدة. في هذه الرحلة المستمرة، نجد ذواتنا ونفقد ذواتنا، لنكتشف في النهاية أن غربة الروح هي أجمل ما في الوجود، لأنها تجعلنا دائماً في حالة بحث عن معاني أعمق، عن حب أكبر، وعن سلام داخلي يتجاوز كل الحدود.
في هذا الاستمرار الأبدي للبحث والاكتشاف، تتعلم الروح أن ترى الجمال حتى في أكثر الأماكن غرابة وعزلة. تتعلم أن تجد النور في الظلام، الأمل في اليأس، والقوة في الضعف. تكتشف أن كل لحظة من الغربة هي فرصة للنمو، لتعميق الفهم لذاتها وللعالم من حولها. إنها تكتشف أن السلام لا يأتي من الخارج، بل ينبع من الداخل، من قلب يتقبل كل تجربة كجزء من رحلته الفريدة.
غربة الروح، بكل ما فيها من ألم وجمال، تعلمنا أن نعيش بقلوب مفتوحة، أن نحب دون تحفظ، وأن نشارك الآخرين رحلتنا حتى في أعمق لحظات العزلة. تعلمنا أن الاتصال الحقيقي يأتي من القدرة على رؤية أنفسنا في الآخرين، ورؤية الآخرين فينا، متجاوزين الأسوار التي نبنيها حول أرواحنا.
مع كل خطوة في هذه الرحلة، نبدأ في فهم أن غربة الروح ليست عن العالم فحسب، بل عن أي إدراك سابق لما نحن عليه. إنها دعوة لتجاوز ما نظن أننا نعرفه عن أنفسنا، لاكتشاف طبقات جديدة من الوعي والإدراك. في هذا الاكتشاف، نجد الحرية الحقيقية - حرية أن نكون ما نختار أن نكون، دون الخوف من الحكم أو الرفض.
الغربة، بكل تجلياتها، تصبح بمثابة مرآة تعكس أعمق آمالنا وأحلامنا، تلك التي تختبئ في أعماقنا، خائفة من النور. ولكن، عندما نجرؤ على مواجهتها، نكتشف أن في قلب كل خوف، يكمن حلم ينتظر أن يتحقق.
في نهاية المطاف، تعلمنا غربة الروح أن الوطن ليس مكاناً نعود إليه، بل هو حالة وجود، حيث نشعر بالانسجام مع الذات والعالم. إنها تعلمنا أن نكون وفيين لمن نحن عليه حقاً، وأن نجد السلام في الاعتراف بأننا، في كل غربتنا وتجولنا، لسنا وحيدين. في هذه اللحظة، حيث تلتقي الروح بأعماقها، تزول كل الغربة، ونجد أنفسنا أخيراً في وطن الروح.