ومضات الأمل في ظلال اليأس: رحلة الروح نحو السكينة
بقلم: د. عدنان بوزان
في زوايا الروح حيث الصمت يعزف سيمفونية الوجود، وفي لحظات الغسق حين يتلاشى ضوء النهار خلف ستار الليل، أجد نفسي وحيداً، محاطاً بسرب من الأفكار الهائمة والأماني المترنحة. مثقلاً بوطأة الأسئلة التي لا إجابات لها، وبالأحلام التي تتبخر قبل أن تتشكل. تعبت أبحث عن مأوى ألوذ به من وحشة الأمل المحفوف بالخطر، تلك الوحشة التي تكمن في زوايا القلب البعيدة، حيث تسكن رغباتنا الأعمق وأحلامنا الأكثر خفاءً.
كم مرة أعدت ترتيب تاريخي، أفتش بين الأوراق المبعثرة عن معنى، عن أثر لوجودي قد يكون ضل طريقه في متاهة الزمن؟ وكم مرة وجدت نفسي أمام صفحة بيضاء، تحاكي صمت الكون، لأدرك أنني أموت مراراً دونما أثر. يا لها من حقيقة مفزعة أن يرى المرء نفسه غائباً حتى وهو موجود.
تعبت من الحقائق الثابتة التي تعلق في الأفق كنجوم باردة، لا تمنح الدفء ولا تهدي طريقاً. من الأمل الهارب الذي كلما ظننت أني أمسكت به، تلاشى كسراب في صحراء قاحلة. من الليل اليائس الطويل الذي يسرق من الروح ألوانها، مخلفاً وراءه لوحةً رمادية الأطياف.
تعبت من مجاراة الهواء، من الانجراف مع كل هبة ريح دون هدف أو معنى. من الضحك السخيف الذي يخفي وراءه ألف دمعة ودمعة. من السخرية من الألم، ذلك الدرع الواهي الذي نحتمي به من جور القدر.
تعبت من كوني أنا، من هذه الشخصية التي أقنعت نفسي بأنها أنا، في حين أني أعلم أن ماهيتي أبعد ما تكون عن هذا الوجود المحدود. تعبت منهم، من أولئك الذين يدعون المعرفة ويتاجرون بالحكمة، ومن أولئك الذين يحولون الحياة إلى مسرح للأقنعة والزيف.
تعبت من حربي الكبيرة، تلك الحرب التي خضتها في صمت، محاولاً استلال أبسط حقوقي من العالم، حق الحلم والأمل والحياة الحقيقية، تلك الحياة التي لا تُقاس بعدد الأنفاس التي نتنفسها، بل باللحظات التي تخطف أنفاسنا بجمالها، بعمقها، بحقيقتها.
لكن وسط هذا اليأس اللانهائي، هذه الدوامة من الشك والتعب، أدركت فجأة أن هناك جمالاً في التعب نفسه، جمالاً في هذه الرحلة المضنية نحو الذات، نحو الحقيقة. لقد علمني التعب أن أقدر اللحظات الصغيرة، اللمسات البسيطة التي تنسج معاً نسيج حياتنا. علمني أن الألم، بقدر ما هو مؤلم، هو أيضًا معلم قاسٍ يكشف لنا عن قوتنا، عن قدرتنا على النهوض مرة تلو الأخرى، حتى عندما نعتقد أننا قد استنفدنا كل ما في جعبتنا.
وفي النهاية، أدركت أن مأوى الروح ليس مكاناً يمكنني البحث عنه في الخارج، وإنما هو مكانٌ يجب أن أبنيه داخلي. مأوى من السكينة والقبول، مأوى يقوم على السلام مع الذات ومع العالم. هذا المأوى الداخلي لا يحمينا من وحشة الأمل المحفوف بالخطر فحسب، بل يجعلنا ندرك أن هناك جمالاً حتى في هذه الوحشة، جمالاً في الكفاح من أجل الأمل، في التمسك به حتى في أحلك الأوقات.
نعم، تعبت من الحرب الكبيرة لأستل من العالم أبسط حقوقي، لكني الآن أرى أن هذه الحرب، بكل تعبها وألمها، هي أيضاً مصدر قوتي وإصراري. إنها تذكرني بأن الحياة، بكل ما فيها من تحديات ومعاناة، تحمل أيضاً في طياتها فرصاً للنمو، للتحول، ولإعادة اكتشاف الذات والعالم من حولنا بعيون متجددة، مفعمة بالأمل والشغف.
وهكذا، وسط ركام اليأس والتعب، أجد بريقاً من الأمل، شعاعاً من النور يلوح في الأفق، يذكرني بأن الحياة، مهما كانت قاسية، تحمل في طياتها إمكانية الجمال والمعنى. وبهذا الإدراك، أجد القوة لأستمر، لأحلم، ولأعيش بكل ما فيّ من عمق وصدق.