رائحة الكلمات: عبق الحرية وأثر التاريخ
بقلم: د. عدنان بوزان
رائحة الكلمات هي العطر الذي يُحيي الذكريات، ويرسم الخطوط الخفية بين الماضي والحاضر. إنها الزفير الأول للطفل عندما يتعلم نطق الحقيقة، والشهقة الأخيرة للثائر وهو يخط بدمه آخر جملة في قصته. تلك الرائحة التي تتسرب إلى الروح ببطء، لتترك فيها أثراً لا يمحوه الزمن.
عندما نتحدث عن رائحة الكلمات، فإننا نتحدث عن تلك الكلمات التي لا تزال عالقة في الذاكرة الجمعية للشعوب، كأنها لحن قديم لا يفتأ يتردد على مسامع الزمن. إنها الكلمات التي نُسجت بدموع الأمهات عند رحيل أبنائهن إلى الحروب، والكلمات التي حملت على أكتافها أوجاع المناضلين تحت وطأة الديكتاتوريات. هذه الرائحة تشبه تلك التي تنبعث من كتبٍ قديمة، ملطخة ببقع الزمان، فتخبرنا عن قصصٍ لم تُكتب بعد، وأخرى كُتبت بحبر لم يجف بعد.
رائحة الكلمات تأخذنا إلى عوالمٍ مختلفة، حيث تختلط رائحة الدخان المنبعث من جثث المدن المدمرة برائحة الورود التي تُوضع على قبور الشهداء. إنها الرائحة التي تحملها الرياح من قاعات المحاكم إلى ساحات المعارك، تلك الرائحة التي تَظهر كلما اشتعلت شرارة في قلب مناضل، أو حين تنفجر كلمة في وجه طاغية. الكلمات التي تحمل تلك الرائحة ليست كلمات عابرة، بل هي كلمات محفورة في الذاكرة، تترك في القلب ندوباً لا تُشفى، وتبث في النفس شغفاً لا ينطفئ.
إنها رائحة الإيمان بالحرية، تلك الحرية التي نُسجت خيوطها من حروف كُتبت في لحظات ألمٍ وأمل، وكأن الكلمات تشبه حبات القمح التي تُزرع في أرضٍ جرداء، تنتظر شروق شمس العدالة لتنمو وتُثمر. هذه الكلمات قد تكون همسات خافتة في زنازين السجون، أو صرخات مدوية في ساحات التحرير، ولكنها تحمل دائماً رائحة واحدة: رائحة الحقيقة.
الكلمات التي تفوح منها هذه الرائحة لا تُخمدها الرياح، ولا تُزيلها الأمطار. إنها كلمات تَرسخت في ضمير الأمة، تروي حكايات المجد والانكسار، وتنقل صوت المظلومين عبر الأزمنة. تلك الرائحة التي تجعل القلوب تخفق كلما تذكرنا قصص الأبطال الذين قضوا من أجل كلمة، وكلما قرأنا نصوصاً كُتبت بأيدي من عاشوا التجربة، أو تلك التي خطتها أيادٍ لم تمسها النار، لكنها تشم رائحة الرماد في الهواء.
رائحة الكلمات هي رائحة الصبر الذي يُنبت الأمل في قلوب المحرومين، هي رائحة التحدي الذي يُشعل الشرارة في نفوس الثائرين، وهي أيضاً رائحة السلام الذي يكتب نهايات الحروب. هذه الرائحة تعيد لنا صور العزلة والخوف، ولكنها أيضاً تُظهر لنا شعلة الأمل التي لا تزال تحترق في أعماقنا، تلك التي ترفض الانطفاء حتى عندما يغطيها رماد اليأس.
في كل كلمة تُكتب، تختبئ رائحة. قد تكون رائحة الخيانة، عندما تُكتب كلمة تُباع بها أمة بأكملها، وقد تكون رائحة الفخر، عندما تُكتب كلمة تدافع عن شرف الوطن. قد تكون رائحة الحب، عندما تُكتب كلمة تُنقذ بها حياة، وقد تكون رائحة الحزن، عندما تُكتب كلمة لتنعي بها أمة.
رائحة الكلمات هي رائحة الذكريات التي لا تموت، تلك الذكريات التي تشكل نسيج الهوية الوطنية، وتُبقي على جذور الانتماء حيّة في النفوس. هذه الرائحة تحمل معها قوة التاريخ، وتجعلنا ندرك أن الكلمات ليست مجرد حروف، بل هي أداة تغيير، وقوة دفع نحو المستقبل. الكلمات التي تفوح منها هذه الرائحة ليست كلمات بسيطة؛ إنها تحمل في طياتها أرواح الأجيال التي مضت، وأحلام الأجيال التي ستأتي.
إنها رائحة الحرف الذي يقاوم النسيان، والحبر الذي يُسجل الحقيقة في وجه الظلم، إنها رائحة الإنسانية التي لا تتوانى عن البحث عن الحق، حتى في أحلك الظروف. رائحة الكلمات تبقى عالقة في الذاكرة، تُلهمنا وتدفعنا نحو المستقبل، تُذكرنا دائماً بأن الكلمة، حتى وإن كانت خافتة، تظل أقوى من كل سلاح، لأنها تحمل معها عبق الحرية، ورائحة الأمل الذي لا يموت.