بقلم: د. عدنان بوزان
الاحترام ليس زينةً نعلقها على صدورنا بالكلمات، ولا خطباً نزيّن بها المجالس لتبدو أضخم مما هي عليه. الاحترام ـ في جوهره الأصيل ـ هو فن الإصغاء إلى صمتك قبل أن تصغي إلى الآخرين، وهو القدرة على أن تمسك لسانك حين تدرك أن الكلام قد لا يكون إلا وقوداً لمعركة تافهة لا تخلف وراءها سوى الرماد.
إنّ من يتقن الصمت لا يفعله ضعفاً أو خوفاً، بل لأنه يدرك أن الصمت في كثير من الأحيان أبلغ من ألف خطاب، وأن الهيبة لا تولد من ارتفاع الصوت، بل من عمق السكون. فالكلمة إذا خرجت من موضعها أهدرت هيبة قائلها، أما الصمت فإنه يحفظ الكرامة من الابتذال، ويبقي للفكر مهابةً لا تنال بيسر.
وليس كل حوار يستحق أن يخاض، كما أن ليس كل عقل جدير بأن يحمل على الكتف. فهناك عقول صغيرة لا تنمو إلا على فتات الجدل، تسعى وراء الانتصار في النقاش لا وراء كشف الحقيقة. تلك العقول إن اقتربتَ منها أطفأت نورك، وإن خاصمتها استنزفتك، وإن جادلتها قيدتك بمعارك لا تشبهك. والابتعاد عنها ليس هزيمة، بل شرف للنفس، وصون لكرامتها، ووعي بقداستها التي لا تقايَض بالتفاهات.
لقد أدرك الفلاسفة منذ القدم أن الحكمة لا تكمن في كثرة الخوض، بل في دقة الاختيار: متى تتكلم ومتى تصمت، ومتى تواجه ومتى تمضي. ولعل أسمى أشكال الاحترام أن تعترف بأن كرامتك أثمن من أن تسكب على قارعة نقاش عقيم. إن اعتزالك لصغار العقول ليس انسحاباً من الحياة، بل بناء لفضاء أنقى تعيش فيه بسلام مع ذاتك، حيث يثمر الفكر صفاء، وتبقى الروح نقية من شوائب المماحكات.
فالاحترام يبدأ من الداخل: أن تحمي نفسك من الاستنزاف، وأن تدرك أن صمتك ليس فراغاً، بل امتلاء بالحكمة. أن تعلم أن الابتعاد عن الضجيج ليس خسارة للعالم، بل مكسب للذات. هناك، في عمق السكون، تكبر قيمتك ويعلو شأنك، لأنك اخترت أن تنصت إلى صوتك الداخلي بدل أن تذوب في صدى العقول الضحلة.
إن من يملك شجاعة الصمت، يملك أن يعيد تعريف الاحترام: لا بما يمليه على الآخرين، بل بما يحفظه لنفسه من وقار، وما يمنحه لروحه من طمأنينة، وما يغرسه في أعماقه من ثقةٍ بأن كرامته أثمن من أن تطرح في مزاد الكلام.