بقلم: د. عدنان بوزان
كأن الحياةَ حين ولدت، لم تبكِ عبثاً، بل كانت صرختها الأولى إعلانَ حضورٍ في وجهِ العدم، وتحدياً لظلامٍ طال انتظاره. تلك الصرخةُ التي شقت رحمَ السكون، فتدافعت أنفاس الكونِ حولها كأمٍّ تستقبلُ وليدها الموعودَ بالنور، لا بالخلود.
صرخة الحياة ليست نغمةَ خوفٍ، بل سيمفونيةُ وجودٍ تعزَف على وترِ الألم. إنها الصوت الأول الذي واجهَ الفناء، والنبضة الأولى التي خافت، ثم أحبّت، ثم آمنت أنّ الوجعَ هو أوضح أشكالِ الحياة. فكل ما يولَد من صمتٍ يصرخ كي يعرِفَ نفسَه، وكل ما يريد أن يحب يبدأ بالارتجاف.
تلك الصرخةُ، في عمقِها، ليست صدى لوجعٍ جسدي وحسب، بل احتجاج على موتٍ سابقٍ، على برودةِ اللا شيءِ التي سبقتنا. هي إعلان تمردٍ على الصمتِ الأبدي الذي يلفُّ الكواكبَ، وعلى الغيابِ الذي يبتلع المعنى. إنها تقول: "ها أنا ذا!" — تقولُها وهي ترتجفُ كشعاعٍ خرجَ للتوّ من ظلمةِ العدم.
صرخةُ الحياةِ، حين تترددُ في أروقةِ الوجود، توقظُ الوردَ من سباتِه، وتعيدُ للماءِ رعشتَه الأولى، وللرِيحِ دهشتَها حين تلمسُ وجهَ الغيم. هي اللحنُ الذي تعلمه الكون قبل أن يعرفَ الكلام، وهي البكاءُ الأول الذي صارَ فيما بعد ضحكة، ثم نشيداً، ثم قصيدةً اسمها الإنسان.
في كل مولودٍ صرخة، وفي كل عاشقٍ صرخة، وفي كل شاعرٍ صرخة، لأن الحياةَ لا تسكَن إلا في مَن يصرخون ضد زوالها. صرخةُ الحب حين تفتَح الأبواب على المستحيل، وصرخة الوجعِ حين يرحل من نحب، وصرخة الحنينِ حين نرى ما كنا عليهِ في مرآةِ ما لن نكونَه بعد اليوم.
هي صرخة تختبئُ في أعماقِنا كلما خنِقَ الحلم، ثم تعود لتفجر ليلَ اليأسِ بنجمةٍ صغيرة. صرخة تقول: ما زال في القلبِ متسعٌ للنور، وما زال في الإنسانِ بقايا إصرارٍ على أن يكونَ جميلاً رغمَ الألم.
صرخة الحياةِ ليست ولادةً وحسب، بل هي ولاداتٌ متكررة، في كل دمعةٍ، في كل قبلةٍ، في كل خيبةٍ تنهض بعدها الأرواحُ كالفجرِ من رمادِ الليل.
هي توقيع الوجودِ على وثيقةِ الخلود، تقول للعدمِ: لن تربح.
فكل حيٍّ يصرخُ مرّةً واحدةً ليعيش، لكن مَن عرفَ المعنى، يصرخ في كل لحظةٍ ليبقى.