بقلم: د. عدنان بوزان
يا صديقي…
لم أعد أعرِفُ أين ينتهي جسدي وأين يبدأ هذا الوطن المختبئ في شراييني؛ صار يشبه ظلي، يسبقني إلى كل مكانٍ ويعود معي مثخناً بما لا يحتمل. لم يعد العجز ضيفاً يمر بقلبي، بل صارَ مِلحَ دمي، وطقساً يومياً تتلوه شراييني كما تتلى صلاة الخائفين. كأنني أعيش على أغنيةٍ واحدةٍ متحجرة، أغنيةٍ تتردد في شراييني حينَ تصحو على وجعها وتنام على رمادها، حتى صرتُ أنا والأغنيةُ جسداً واحداً، وجعاً واحداً، وصرخةً لا تجد فماً كي تقال.
أشعر أن قلبي مدينة عتيقة بلا أبوابٍ ولا نوافذ، تمشي فيها الأرامل ظلالهن على الأرصفةِ المهجورة، وتنعى جدرانها نفسَها كل صباح، كما لو كانت تقيم مأتماً جديداً لكل حجرٍ سقطَ من روحها. الغبار هناك ليس غباراً فحسب، بل أشباح حكاياتٍ قديمة، ونحيب أرصفةٍ تعلمت لغةَ الصمتِ من كثرةِ ما سمعتِ القصف.
أحمل في صدري خرائطَ أحياءٍ أُبيدت، وأسماءً لم تعد تشبه أصحابها لأن أصحابها صاروا غباراً، وصوراً تتكسر في ذاكرتي كلما حاولتُ ترميمها. أعيشُ بين أطلالي كما يعيش اللاجئُ في ذاكرته، أتنقل بين أنقاضِ نفسي كما يتنقلُ رجلٌ يبحث عن أبنائه في ركامِ بيتٍ محروق. حتى المرآةُ يا صديقي لم تعد تعرفني بي؛ صارت تعيد لي صورةً شاحبةً كأنها ليست لي، أو كأنني لم أكن يوماً أنا.
الكتابةُ لم تعد ملاذاً كما كانت؛ صارت مقبرة جماعية للحروف. كل سطرٍ فيها نعشٌ صغير، وكل كلمةٍ شاهد قبرٍ لذاكرةٍ تغتالُ كل مساء. أكتبُ كي لا أختنقُ بما في صدري، لكني أختنقُ بالحروف نفسها، كأنني أبتلع شظايا زجاجٍ لا يغادر حلقي. أصرخُ فلا يسمعني سوى الصدى يرتطم بجدران رأسي، وأبكي فلا ينزل مني سوى غبارٍ يشبه رمادَ البيوتِ المذبوحة.
ما نعيشه لم يترك للكلماتِ إلا الموتَ البطيءَ، ولم يترك للروحِ إلا أن تصبحَ حضانةً لوطنٍ يساق إلى موتٍ بطيءٍ في صمتٍ مهيب. حتى بت أنا والوطنَ ندماً واحداً، جرحاً واحداً، قلباً ينفس الخرابَ ويَنبض بالرَماد. كأنني آخرُ شاهدٍ على مدينةٍ تحترقُ في داخلي، وآخرُ سجينٍ في ذاكرةٍ تحاصِرني ولا تتركني أنجو منها.
كل شيءٍ يا صديقي صارَ رماداً: أصواتنا، وجوهنا، حتى الأحلامُ صارت تولدُ ميتةً قبل أن تتعلم النهوض. الأملُ نفسه صار شجرةً يابسةً تلوحُ لنا ولا تظللنا. صرتُ أحملُ الوطنَ في دمي كما يحملُ طفل في تابوتٍ صغير، وأحمله في صدري كما تحملُ القيامةُ في عينَي نبيٍّ مهزوم.
أنا والوطنُ اليومَ ملامحُ واحدة؛ أنا أنزفهُ وهو ينزفني. لا أدري أينا يموتُ في الآخر، أنا فيه أم هو فيّ، لكني أعرِف أننا معاً جُرحٌ واحدٌ يتنفسُ الخراب، ويبحثُ عن حياةٍ أخرى في الرماد. كأنني أكتبُ الآن لا لأُنقذَ نفسي، بل لأكتبَ شاهداً على موتِها، ولأتركَ أثراً يقول إننا كنا هنا ذاتَ يوم، وإنّ الحروفَ أيضاً قادرةٌ على أن تقاومَ حين يعجزُ كل شيءٍ عن المقاومة.