بقلم: د. عدنان بوزان
حين مات الحنين بين الرحيل والغربة، لم يمت فجأة؛ بل ذبل كما تذبل الشموع في مهب انتظارٍ طويل. كان موته بطيئاً، موجعاً، يشبه انطفاء القلوب التي تترك وحيدة في محطاتٍ لا يصلها أحد، ولا يغادرها أحد كما كان. هناك، بين حقائب مثقلة بالأسئلة، ووجوهٍ تعلّمت كيف تبتسم للوداع من دون أن تؤمن بالعودة، تحول القلب إلى جسدٍ بلا روح؛ يمشي لأن العادة أقوى من الرغبة، ويتنفس لأن الموت لم يمنحه بعد إذن الرحمة.
لم يعد القلب قلباً؛ صار غرفةً مهجورة، تتراكم فيها صور الأمس، وتتعفن الذكريات على جدرانها، بلا نافذةٍ تطل على الأمل. كل شيءٍ فيه كان يشبه الحياة، إلا الحياة نفسها. نبضٌ بلا معنى، ودمٌ يسري كأنه يؤدي واجباً قديماً نسي سببه. كان الحنين، ذلك الطفل الذي خبأناه طويلاً في صدورنا، قد تعب من البكاء، فنام نوماً أبدياً بين حدود الرحيل الأولى وخطوات الغربة الأخيرة.
الغربة لم تكن مكاناً؛ كانت حالةً من التيه، لغةً نتقنها من دون أن نحبها، ووجوهاً تشبهنا ولا تعرف أسماءنا، وأياماً تمرّ ولا تترك أثراً سوى مزيدٍ من التعب. في الغربة، يصير الزمن حاداً، يجرحك كلما مرّ، ويذكرك بأنك لم تعد تنتمي إلا لوجعك. هناك تتعلّم كيف تكون غريباً حتى عن نفسك؛ كيف تنظر إلى مرآتك فلا تتعرف إلى ملامحك، كأنك شخصٌ آخر يسكن جسدك مؤقتاً.
أما الرحيل، فلم يكن خطوةً إلى الأمام، بل انكساراً داخلياً مؤجلاً. هو ذلك القرار الذي نتخذه ونحن نعلم أنه سيأخذ منّا أكثر مما سيمنحنا، لكنه يبدو الخيار الوحيد حين تضيق الأرض بما رحبت. الرحيل لا يقتلنا دفعةً واحدة؛ بل يعلمنا كيف نعيش ناقصين، كيف نحمل أوطاننا كجراحٍ مفتوحة، ونسير بها بين المدن من دون أن يسألنا أحد عن نزيفها.
حين مات الحنين، ماتت التفاصيل الصغيرة التي كانت تمنح الحياة معناها: صوت المساء في الحيّ القديم، رائحة الخبز، ضحكةٌ كانت تصل قبل صاحبها، وشوارع كنا نحفظها أكثر مما نحفظ وجوهنا. ماتت تلك القدرة العجيبة على الفرح من دون سبب، وعلى البكاء من دون خجل. صار كل شيءٍ محسوباً، بارداً، خالياً من العفوية، كأن القلب تعلم الانضباط بعد أن فقد حريته.
تحول الإنسان إلى كائنٍ يؤدي أدواره بإتقان: يعمل، يتحدث، يضحك حين يجب أن يضحك، ويصمت حين ينتظر منه الصمت. لكنه في الداخل كان فراغاً شاسعاً، صحراء بلا أفق، تسكنها أصداء أسماء لم تعد تنادى، وأماكن لم يعد لها وجودٌ إلا في الذاكرة. الروح انسحبت بهدوء؛ لم تصرخ، لم تحتج، بل تركت الجسد يتدبر أمره وحيداً.
ومع ذلك، في أكثر اللحظات قسوة، كان ثمة شيء ما يقاوم الموت الكامل: ربما بقايا حنين، أو خيط رفيع من الأمل لا ينقطع مهما شددنا عليه. شيء يهمس لنا بأن القلب، حتى وهو جسدٌ بلا روح، ما زال قادراً على الانتظار، وعلى الترميم، وعلى أن يولد من جديد حين يعثر على مكانٍ يشبهه، أو على وجهٍ يقول له: لم تتأخر… كنتُ هنا.
هكذا، بين الرحيل والغربة، نموت قليلاً كل يوم، ونحيا قليلاً من دون أن نشعر. نمشي على حافة الذكرى، ونحمل قلوباً متعبة، لكنها لم تتخلَّ تماماً عن فكرة العودة، ولو كانت عودةً إلى أنفسنا فقط.