بقلم: د. عدنان بوزان
العيد... ذلك الشبح الذي يعود كل عام، يتكرر كسيناريو مسرحي باهت، بلا روح ولا حياة، واجهة براقة تخفي وراءها وجع البؤس واستغلال الذات والآخر. تسألونني: ماذا تكره؟ أجيبكم بلا تردد: أكره العقل... عقل الفلاح المُقيّد، ذلك العقل الذي لا يفكر إلا في خدمة مصالح ضيقة، عقلٌ استُعبد لشهواته، عقلٌ يعيش على التكرار والجمود، يعيد إنتاج التخلف ويكافئ الجهل بلا رحمة في كل مناسبة.
العيد... مشهد سنوي على مسرح الزمن، تتراقص فيه أضواء الخداع والتزوير، ويفرِح الأغنياء كالفرسان على ظهور براقات البذخ، يتبادلون "كتباهي" — لحوماً فاخرة لا تذوقها أفواه الجياع، بل تُوزع كجوائز نفاق داخل دائرة النخبة، لتلصق على الوجوه أقنعة التفاهة والتمويه. لم يكن العيد لهم مناسبات للعطاء أو الرحمة، بل وقتاً لتكريس ثرواتهم ولعب احتفالاتهم الخاصة بعيد الكذب.
العيد... مهرجان للأغنياء والكاذبين والمنافقين، موعد تتراقص فيه الألوان فوق خشبة مسرح زائف، بينما تتعفن الحقيقة في الخلفية بصمت قاتل. يحتفل الأغنياء بثرواتهم واستغلالهم للضعف الفقراء، لا يوزعون الأضاحي للفقراء، بل لطبقتهم الاستغلالية، ويرمون للفقراء العظام كتبرع مخفي تحت نقاب الرحمة، أشد صور الظلم في أبهى حلله. يبني الكاذبون ذريعة للعفو عن وجوههم القبيحة، ويغلف المنافقون خداعهم بأقنعة الصدق المزيفة، يخونون من حولهم يوماً بعد يوم.
أما الأديان؟ فقد تحولت إلى بضاعة في أسواق التجار والسماسرة، تتشابك أيديهم مع السلطة لتنسج مذاهب لا تشبه إلا نفسها، وشعائر لا تهدف إلا لتعزيز مكانة أتباعها على حساب الإنسان الضعيف. العيد في هذه الحالة ليس إلا عرضاً تجارياً مسرحياً كبيراً، يبيع الوهم والطمأنينة الزائفة، ويغلف الصراعات الاجتماعية والمادية بهالة من القدسية، لتشل التفكير النقدي وتُبقي النفوس رهينة.
أما الفقراء... يا لهم من بشر تُقهر أرواحهم في هذا اليوم! لا يملكون إلا أكل الهواء وعبادةً غارقة في الظلام. لا يعني لهم العيد سوى طقوس بلا وعي، وأدعية تكررها شفاههم دون إدراك، وإيمان يغذيه الخوف من المجهول لا نور الإدراك والمعرفة. إنهم سجناء عيد لا يحتفل بهم، بل يحتفل عليهم، بين الأضحية المنسية والفرح المُغتصب.
في هذا المشهد، يصبح العيد ليس مناسبة فرحاً ولا انتعاشاً روحياً، بل محطة ألم تكشف وجوه الظلم الاجتماعي، وتعرّي الصراعات الطبقية، وتفضح نفاق الأديان التي تحولت من منارات للروح إلى أدوات حكم واستغلال. العيد صورة مكررة من تناقضاتنا، مرآة عاكسة لقبح عقولنا ومجتمعاتنا المتكسرة.
ولهذا، لا أحتفل بالعيد، بل أحتفل بمقاومته؛ مقاومة العقل الملوث بالجهل والرياء، مقاومة الطقوس التي لا تحمل سوى استمرار الاستغلال، مقاومة الاستسلام لترهات تبعد الإنسان عن إنسانيته الحقة. العيد، حين تفهم حقيقته بهذا البعد، يصبح نداءً ثورياً ضد كل أشكال الخداع الاجتماعي والسياسي والديني.
فلتكن الثورة هي العيد الحقيقي، عيد التحرر من القيود، عيد الإنسان المستيقظ على ذاته، عيد الحق في الحياة الحرة الكريمة.