بقلم: د. عدنان بوزان
الثورة والثروة خطان متوازيان لا يلتقيان؛ فالثورة ابنةُ الفقر النبيل، تولد من رحم الجوع والظلم، وتخط بدماء المقهورين وصيحات الحناجر التي تهتف في ليلٍ طويل: كفى! أما الثروة فهي في الغالب تراكم زائف، أو غنيمة مغتصبة، أو امتياز متوارث منذ عصور الاستبداد. وحين تمتد يد الثورة لمصافحة الثروة، يختلط الدم بالطين، وتفقد الصرخةُ طهارتها، ويتحول الميدان إلى سوقٍ للمساومات.
الثورة التي لا يقودها الوعي ليست ثورة، بل عاصفةٌ هوجاء، تجرف الحجارة والبيوت، وتترك الأرض قاحلة بلا خضرة. الوعي هو البوصلة التي تحفظ الحلم من الضياع، وهو السقف الذي يحمي الفقراء من أن يتحولوا إلى وقودٍ لأمراء الحرب. وحين يغيب الوعي، تتحول الثورة إلى إرهابٍ أعمى، وسيفٍ مسلولٍ على رقاب الأبرياء، وفوضى تبحث عن دمٍ كي تبرر وجودها. الثورة بلا وعي جسدٌ بلا رأس، يسير نحو الهاوية وهو يظن أنه يمضي نحو الحرية.
وعلى الضفة الأخرى، الثورة التي تغدق عليها الأموال سرعان ما تنحدر إلى صفقةٍ مشبوهة. المال حين يدخل الميدان، يلون الشعارات بألوان الذهب، ويحول القادة إلى سماسرةٍ يبيعون دماء الشهداء في أسواق السياسة. المال يبني الجيوش الخاصة والقصور المنيفة، ويزرع في العقول بذور الطمع بدل بذور التضحية. وحين تتضخم الأرصدة، تنكمش المبادئ، ويغدو القائد الذي كان يهتف باسم الشعب، حارساً لثروته الخاصة، يشيد الأسوار حول قصره، وينسى الأزقة التي خرج منها.
إن الثورة التي تنجو من فخ الإرهاب ومن مصيدة المال هي الثورة التي تعانق الوعي. الوعي الذي يحميها من الانزلاق، ويمنحها القدرة على التمييز بين الحق والباطل، بين الحرية والفوضى، بين العدل والانتقام. فالثورة لا تحتاج إلى الذهب، بل إلى الإيمان الصادق والضمير الحي. لا تحتاج إلى الخزائن، بل إلى قلوبٍ عامرة بالعدل، وعقولٍ مضيئة بالمعرفة.
كم من ثورةٍ عظيمةٍ أُجهضت لأنها وقعت في يد لصوصٍ متنكرين بلباس القادة! وكم من ثورةٍ تحولت إلى وحشٍ مفترسٍ حين غاب وعيها، وصارت أداةً للقتل! وكم من ثورةٍ تحطمت على صخرة المال حين تسلل إلى صفوفها، فحول المناضلين إلى تجار، والأحلام إلى أوراقٍ مختومة بتواقيع المصارف!
الثورة الحقيقية لا تقاس بعدد البنادق ولا بوفرة الأموال، بل بقدرتها على إنبات شجرة عدلٍ في القلوب لا تقتلع. الثورة نارٌ تضيء ولا تحرق، وصوتٌ يحرر ولا يذل، وفعلٌ ينقذ الإنسان من عبودية الإنسان. الثورة بلا وعي قبرٌ مفتوح، والثورة الممولة سوقٌ للمرتزقة، أما الثورة الواعية فهي الفجر الذي يولد من رحم الليل، فلا يترك وراءه ظلاماً، بل يفتح للناس أبواب النهار.
إن الثورة ليست غايةً في ذاتها، بل طريقٌ إلى إنسانٍ جديد. وحين تختلط بالثروة، تجهض نفسها قبل أن ترى النور، وحين تنفصل عن الوعي، تنقلب إلى كابوسٍ دموي. أما حين تقترن بالوعي، فإنها تتحول إلى مدرسةٍ للتاريخ، ينهل منها القادمون دروساً في الكرامة، ويكتبون على جدرانها:
الثورة والثروة لا يلتقيان، ومن أراد الحرية فليحمل وعيه في قلبه، لا مالاً في جيبه.