بقلم: د. عدنان بوزان
لا بد أن تكون الدولة، في زمن انهيار النماذج المتقابلة وتعري ادعاءاتها، كياناً جديداً يعيد تركيب المفاهيم لا على أساس ثنائياتها المتآكلة، بل على ضوء وعيٍ تاريخي عميق بالتحولات الحضارية التي عصفت بالعالم، وخصوصاً بالمنطقة الممزقة بين فوضى الحداثة وتصدّعات التراث.
فالدولة التي نريدها اليوم ليست تلك التي تتأرجح بين قطبين ميتين: لا هي علمانية جافة تفصل الدين عن الحياة وتستبعده من المجال العام كأنه تهمة، ولا هي ثيوقراطية تتحدث باسم الله وتفرض سلطتها بوصفها ظلاً للغيب على الأرض. كلا النموذجين أثبت عجزه، سواء في صون السلم الأهلي، أو في إنتاج تنمية مستدامة، أو في بناء عدالة حقيقية تنصف الجميع.
العلمانية حين تتحول إلى قطيعة روحية مع الإيمان، تصبح قشرةً باردة، تنزع عن الإنسان جذوره الوجودية وتلقي به في فراغ ميتافيزيقي لا يسدّه علمٌ ولا ترممه تقنية. تصنع مواطناً تائهاً، مفصولاً عن ذاته، يركض في عالمٍ مادي لا يحمل له سوى الغربة. أما الدولة الثيوقراطية، فهي ليست سوى إعادة إنتاج للطغيان، تلبسه لبوس القداسة وتضفي عليه مشروعية السماء. هي دولة تقمع العقل باسم الوحي، وتمنع السؤال باسم الإجابة الإلهية، وتنتج طغاة يظنون أنفسهم أوصياء على الأرواح والنوايا.
وبين هذا وذاك، يبرز أفق ثالث: دولة أخلاقية، مدنية، لا تنفي الدين ولا تحتكره، ولا تعادي الإيمان ولا تؤلّهه. دولة تعترف بأن للأديان دوراً عميقاً في تشكيل الضمير الإنساني، لكنها في الوقت ذاته ترفض أن يتحول الدين إلى سلطة تشرع وتقرر نيابةً عن المجتمع. القيم التي جاءت بها الرسالات — من عدل ورحمة وصدق وتكافل — ليست ملكاً دينياً حصرياً، بل هي أيضاً حقائق عقلية وأخلاقية، أثبتت جدواها في التجربة الإنسانية. والدولة الأخلاقية لا تستمد مشروعيتها من وصاية سماوية، بل من التزامها العميق بحماية كرامة الإنسان، ورعاية التعدد، والمزاوجة الخلاقة بين الإيمان والعقل، بين التراث والحداثة، بين الروح والنظام.
إنها دولة لا تجرّم الإيمان، بل تحميه من الاستغلال، وتفصل الدين عن الدولة لا كفصلٍ قسري، بل كتحريرٍ مزدوج: تحرير للإيمان من قبضة السلطة، وتحرير للسياسة من سطوة المقدّس. هي دولة تضمن حرية المعتقد، دون أن تترك الباب مفتوحاً لتشريعات قائمة على العقيدة تقصي المختلف وتقيد الحريات. وهي في ذات الوقت لا تسمح أن تستخدم القيم الليبرالية كأدوات تغريب أو ازدراء للهوية، ولا أن يتحول التنوير إلى سلاح فكري ضد الجماعات المؤمنة.
الدولة الأخلاقية تدرك أن السياسة ليست معركة عقائد، بل صراع رؤى ومشاريع. وهي ليست محايدة تماماً كما تدعي الليبرالية الصرفة، ولا منحازة كما تفعل الدول الدينية، بل هي منحازة إلى الإنسان: إلى كرامته، إلى حريته، إلى المساواة، إلى العدالة، إلى مقاومة الجهل والطغيان. إنها دولة تجعل من العقل بوصلة، ومن الأخلاق رافعة، ومن القانون درعاً لا لحماية السلطة، بل لحماية الناس من السلطة.
لكن هذا المشروع لا يولد فجأة. لا يمكن بناء دولة أخلاقية في ظل أنظمة ترى في المواطن تابعاً لا شريكاً، أو في مجتمعات تحول الدين إلى سلاح انتخابي أو راية مذهبية. هذا المشروع يبدأ من التعليم — من صناعة إنسان حر، لا حافظ نصوص — ويستمر بإصلاح الخطاب الديني ليصبح محرراً لا مؤدلجاً، ويتوَج بصياغة عقد اجتماعي عادل لا يقوم على الغلبة، بل على المواطنة المتساوية، والكرامة الإنسانية.
الدولة الأخلاقية لا تذيب التعدد في بوتقة واحدة، ولا تفرق بين الناس باسم الطائفة أو العرق أو العقيدة، بل تصنع وحدةً من رحم الاختلاف، وتحافظ على الدين في مكانه الطبيعي: ضميراً حياً، لا سوطاً مسلطاً، ونوراً داخلياً، لا سلطة خارجية. إنها الدولة الوحيدة القادرة على حماية الإنسان من ذاته ومن غيره، وعلى منح الإيمان قدسيته، والعقل حريته، والحياة معناها. وهي وحدها التي يمكن أن تكون وطناً حقيقياً: لا سجناً باسم الله، ولا متحفاً باسم الحداثة، بل بيتاً للكرامة، وسقفاً للروح، وأفقاً للحرية.