بقلم: د. عدنان بوزان
لماذا؟
لماذا نحن شعبٌ لا يحبّ مَن يكتب له وهو على قيد الحياة؟
لماذا نترك مثقفينا وحدهم في الأزقة، يكتبون على الجدران دماءهم، ولا نقرأ، ولا ننصت، ولا نمدّ يداً؟
ثم، حين يموتون… حين يسقط القلم من بين أصابعهم المرتعشة، نرفع صورهم عالياً، نطبع أشعارهم على الجدران، ونرسم وجوههم على حيطان المدن التي تجاهلتهم طوال حياتهم.
لماذا؟
هل هو الموت وحده من يمنح الكاتب الكوردي اعترافاً؟
هل يجب أن ينطفئ الجسد، لكي نضيء القصيدة؟
هل يجب أن يُجلَد الكاتب حيّاً، كي يُعلَّق شهيداً على جدار الذاكرة؟
ما أقسى هذا الوطن الذي لا يراك إلا حين تموت، ولا يسمعك إلا حين تصمت إلى الأبد.
نحن ندفنهم بأيدينا، ثم نحفر بأظافرنا لنُخرج أسماءهم كي نعرضها في مهرجاناتنا.
نحن أول من خذلهم، وأول من بكاهم.
نحن لم نقتلهم برصاصة، لكننا قتلناهم بالصمت، بالتجاهل، بالشتيمة، بالخوف.
تركناهم فريسةً للفقر، وللمنفى، وللعزلة.
تركناهم يقاومون العالم وحدهم، يكتبون تحت المطر، يشتمهم الجميع، بينما نحن نراقبهم من بعيد ونقول:
"لقد جُنَّ هذا الرجل… من يظنّ نفسه؟"
وحين يرحل…
حين يُعلن جسده التعب، وتغيب عيناه عن الوطن، نبدأ فجأة بنظم القصائد فيه:
"كان عبقرياً… كان صادقاً… لم يفهمه عصره."
وكأننا لسنا من عاشوا في عصره.
كأننا لسنا نحن من كسر أقلامه.
لماذا نحبّ الكاتب الكوردي حين يموت؟
لأنه لم يَعُد يُزعج أحداً؟
لأنه لم يَعُد يكتب الحقيقة؟
لأنه صار آمناً، صورةً، تمثالاً، لا خطر منه؟
أيها الوطن…
كم شهيداً آخر للكلمة تحتاج؟
كم كاتباً يجب أن يكتب حتى الرمق الأخير، على ورقٍ مأكول، بحبرٍ من الدموع، في غرفةٍ بلا تدفئة، بلا دار نشر، بلا جائزة، بلا قارئ؟
كم من شاعر علينا أن ندفنه، كي نقتنع أن الكلمات تحتاج من يحتضنها، لا من ينوح عليها بعد فوات الأوان؟
الكاتب الكوردي لا يعيش عمره، بل يعيش موته في حياته.
يعيش منفيّاً في لغته، محاصراً في وطنه، غريباً بين أهله، مصلوباً بين الحقد والسخرية.
يُتَّهَم بالخيانة لأنه كتب عن الوجع.
يُتَّهَم بالكفر لأنه صرخ في وجه الإله الظالم.
يُتَّهَم بالانحراف لأنه لم ينحنِ لحزبٍ أو شيخٍ أو سلطة.
ثم… يُرفع صوته بعد الموت على الأكتاف، كأننا نعتذر، لكن بعد فوات الاعتذار.
أيها الكاتب الكوردي،
يا من لا وطن يحميك، ولا جريدة تنشرك، ولا عيون تصغي،
اعذرنا…
نحن لا نراك إلا حين تموت.
لا نحبك إلا حين تعجز عن الرد.
لا نفهمك إلا حين تتوقّف عن الكتابة.
نم قريراً في ترابك، يا شهيد الكلمة.
ها نحن الآن نضع ورداً على قبرك، ونكتب اسمك على ملصق، ونبكي كثيراً…
لكننا لم نقرأك، ولم نحمِك، ولم نؤمن بك.
نحن من قتلك، ثم بكاك.
نحن من صلبك، ثم أنشدك.
نحن من نسيك حيّاً، وأحبّك ميتاً.
هل هذا هو قدر المثقف الكوردي؟
أن لا يُسمع صوته إلا بعد أن يُكسَر صوته؟
أن لا يُكرَّم إلا حين يصبح تمثالاً بلا لسان؟
أن يبقى شهيداً حتى وهو يكتب، يموت بين سطرٍ وسطر، يُدفن في القصيدة، ثم يُقام له تمثال على قارعة الطريق؟
نعم… هذا هو قدرنا نحن الكورد:
أن نحبّ شهداءنا،
لكن فقط بعد أن يُقتَلوا.
فمن التالي؟
من الكاتب القادم الذي سنخذله حيّاً، ثم نبكيه طويلاً؟
من القلم الجديد الذي سنكسّره، ثم نُقبِّل ما تبقّى منه بعد موته؟
كل كاتب كوردي يعرف الجواب…
لكنه لا يتوقّف عن الكتابة.
لأنه يعرف أنه لن يُسمَع، لكنه يكتب.
يعرف أنه سيموت، لكنه يكتب.
يعرف أن الحب سيأتي متأخراً، لكنه يكتب.
يكتب…
كي لا يموت الوطن قبل موته.