رؤية سياسية: الأزمة السورية والحل السياسي كبديل حتمي للحل العسكري
بقلم: د. عدنان بوزان
منذ أكثر من عقد، يعيش الشعب السوري في قلب واحدة من أعمق الأزمات الإنسانية والسياسية في العصر الحديث. هذه الأزمة ليست مجرد صراع داخلي بين أطراف سياسية أو عسكرية، بل هي تجسيد صارخ لتشابك وتعقيد الصراعات الإقليمية والدولية، التي تتداخل فيها المصالح الاقتصادية والجيوسياسية بشكل أصبح من الصعب فكه أو فهمه بعيداً عن التدخلات الخارجية والتنافس على النفوذ. سوريّا، التي كانت في يوم من الأيام رمزاً للاستقرار النسبي في منطقة مضطربة، تحولت بفعل هذه الأزمة إلى ساحة حرب مفتوحة على جميع الاحتمالات والمخاطر.
لقد بدأ الصراع السوري كتظاهرات سلمية تطالب بالإصلاحات وتحقيق العدالة، لكنه سرعان ما تحول إلى نزاع مسلح دامٍ، دخلت فيه القوى الكبرى والأطراف الإقليمية، بما أضافه من أبعاد جيوسياسية تعقدت معها الحلول. مع مرور الوقت، أظهرت الأزمة أن اللجوء إلى الحلول العسكرية لم يسهم سوى في تأجيج الصراع، بل أصبح سبباً رئيسياً في تفاقم معاناة الشعب السوري. الحرب لم تقوّض فقط المؤسسات والبنية التحتية الأساسية للبلاد، بل خلّفت وراءها ملايين من الضحايا واللاجئين والمشردين، وهددت وحدة المجتمع السوري بمزيد من الانقسامات الطائفية والعرقية.
ومع تنامي هذه التحديات، أصبح واضحاً أن استمرار الاعتماد على الحل العسكري لن يؤدي إلى أي نتيجة إيجابية، بل سيزيد من تعميق الأزمة، ويضاعف حجم المأساة الإنسانية. الحل العسكري، في جوهره، لا يتعامل مع جذور المشكلة الحقيقية، بل يعزز من استمرار العنف والدمار. في المقابل، يظهر الحل السياسي كبديل حتمي، ليس فقط من أجل إنهاء القتال، بل لتحقيق سلام مستدام يستند إلى العدالة والمصالحة الوطنية، ويضمن حقوق جميع مكونات الشعب السوري في بناء مستقبله.
إذن، ما هو الحل السياسي؟ وما هي مقوماته وسبل تحقيقه؟ كيف يمكن للأطراف المختلفة أن تتجاوز فخ الشكوك والصراعات لتحقيق سلام حقيقي؟ هذا هو محور النقاش الذي سنغوص فيه، بحثاً عن حلول يمكن أن تفتح الطريق أمام سوريا نحو الاستقرار والتعافي.
1- الحل العسكري: تكاليفه وآثاره
إن الحل العسكري في سوريا لم يكن مجرد وسيلة دفاع أو هجوم لتحقيق أهداف آنية، بل أصبح منهجاً مستداماً لأطراف الصراع الداخلي والخارجي، وهو منهج يحمل في طياته عواقب وخيمة:
• زيادة الدمار المادي والبشري: الحروب المستمرة أدت إلى تدمير البنية التحتية الأساسية، بدءاً من المستشفيات والمدارس وصولاً إلى الموارد الحيوية مثل المياه والكهرباء.
• تشريد الملايين: الملايين من السوريين أصبحوا لاجئين أو نازحين داخلياً، يفقدون كرامتهم وحقوقهم الأساسية.
• الاقتصاد المنهار: كلما طال أمد الحرب، زاد الانهيار الاقتصادي، مما يجعل عملية إعادة الإعمار المستقبلية أكثر تعقيداً.
• فقدان الثقة الوطنية: الحلول العسكرية تُنتج مزيداً من الشروخ الاجتماعية والطائفية والعرقية، مما يجعل التعايش مستقبلاً تحدياً ضخماً.
2- الحل السياسي كبديل لا مفر منه
الحل السياسي هو السبيل الوحيد لتحقيق السلام والاستقرار في سوريا، لكن ذلك يتطلب أولاً وقبل كل شيء إرادة حقيقية من الأطراف المعنية داخلياً وخارجياً.
أ- مقومات الحل السياسي الناجح:
• حوار سوري-سوري شامل: يجب أن تشارك في العملية السياسية جميع الأطياف السورية من المعارضة والنظام والمجتمع المدني، بعيداً عن التهميش أو الإقصاء.
• إشراف دولي محايد: يمكن للأمم المتحدة والقوى الدولية التي لا تحمل مصالح مباشرة في سوريا أن تلعب دور الوسيط لضمان نزاهة العملية.
• ضمانات لحقوق جميع الأطياف: يجب أن تُبنى أي عملية سياسية على مبدأ المساواة والعدالة، وضمان حقوق جميع المكونات العرقية والطائفية والسياسية.
• وضع دستور جديد: يضمن فصل السلطات، ويحترم التعددية السياسية والاجتماعية، ويؤسس لدولة مدنية ديمقراطية.
ب- التحديات أمام الحل السياسي:
إن إدراك أهمية الحل السياسي لا يعني بالضرورة سهولة تحقيقه. فهناك تحديات رئيسية تقف في طريقه:
• التدخلات الخارجية: العديد من الأطراف الدولية والإقليمية تستغل الأزمة السورية لتحقيق مصالحها الجيوسياسية، مما يعقّد أي عملية تفاوضية.
• عدم الثقة بين الأطراف: سنوات من الحرب عمّقت الفجوة بين مختلف الأطراف السورية، ما يجعل بناء الثقة أمراً شاقاً.
• إعادة الإعمار والتعويضات: لا يمكن لأي حل سياسي أن ينجح دون توفير خطط لإعادة إعمار البلاد، وإعادة اللاجئين، وتعويض المتضررين.
ج- النتائج المتوقعة من الحل السياسي:
• وقف نزيف الدم والدمار: التوصل إلى حل سياسي يُنهي العمليات العسكرية، وبالتالي يُوقف دورة العنف.
• إعادة اللاجئين والنازحين: بإعادة بناء الثقة والبنية التحتية، يمكن أن يبدأ اللاجئون في العودة إلى ديارهم.
• تحقيق المصالحة الوطنية: الحل السياسي يفتح الباب أمام حوار وطني شامل يُعيد التلاحم المجتمعي.
• نهوض سوريا من جديد: بإنهاء الصراع، يمكن لسوريا أن تبدأ رحلة التعافي السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
في الختام، الحل العسكري في سوريا لم يكن سوى أداة لتكريس المعاناة وتعميق الكارثة الإنسانية. وعلى الرغم من التعقيدات الهائلة المحيطة بالأزمة السورية، يظل الحل السياسي هو الخيار الوحيد القادر على إنقاذ البلاد من دوامة العنف والفوضى. سوريا تحتاج اليوم إلى رؤية سياسية شاملة قائمة على الحوار والمصالحة، تضمن العدالة والسلام للجميع، وتضع حداً لمعاناة ملايين السوريين الذين ينتظرون بريق أمل وسط هذا الظلام.