العناد السياسي والنظام السوري: تحديات الحقوق الكوردية وسبيل المستقبل

بقلم: د. عدنان بوزان

يظهر النظام السوري كواحدٍ من أكثر الأنظمة تسلطاً واستبداداً في العالم، ورغم ذلك فإنه يفتقر إلى الحكمة السياسية اللازمة لضمان استمراره أو حتى لتجنب الكوارث السياسية والاجتماعية التي تعصف بالبلاد. إذ لا يمكن وصف النظام الذي يحكم سوريا لأكثر من خمسين عاماً، على الرغم من الانهيارات المتتالية لمؤسساته وقواته العسكرية، إلا بالغارق في العناد والإنكار. يظل السؤال مفتوحاً: لماذا يرفض بشار الأسد الاعتراف بالحقوق القومية للكورد؟

إذا ما أقدم النظام على خطوة كهذه، فإن الوضع السياسي في سوريا قد يتغير جذرياً. من جهة، ستتلقى المعارضة السورية العنصرية ضربة قاصمة، حيث أنها لطالما اعتمدت على خطاب الإقصاء والتهميش لإشعال نار الفتن وتحقيق مصالحها الضيقة. ومن جهة أخرى، قد تخلق هذه الخطوة فرصة لإعادة بناء سوريا على أسس تعددية تحترم تنوعها الإثني والديني، وهو ما يمكن أن يكون أساساً لاستقرار طويل الأمد.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا تستمر العقلية الطائفية داخل النظام، وحتى بين النخب العلوية، في تجاهل الحقائق السياسية والمخاطر الوجودية؟ هل يدرك العقلاء من الطائفة العلوية أن صعود الفصائل الإسلامية المتطرفة إلى السلطة يعني كارثة ليس فقط للعلويين، بل أيضاً للكورد والدروز والمسيحيين والأقليات الأخرى؟ التاريخ يعطينا إشارات واضحة: القوى المتطرفة لا تعرف معنى المصالحة، ولا تمتلك مشروعاً وطنياً، بل تسعى دائماً لفرض هيمنتها المطلقة على حساب الجميع.

التشبيه بالذئب هنا دقيق للغاية. كما أن الذئب لا يتخلى عن غريزته بالخيانة والانقضاض على الفريسة، فإن المعارضة السورية المتطرفة لا يمكن أن تتحول فجأة إلى معارضة وطنية. حديث البعض عن "الأخوة السورية" و"وحدة الشعب" ليس سوى واجهة مؤقتة، تهدف إلى خداع الرأي العام حتى يتمكنوا من الوصول إلى السلطة. وإذا ما نجحوا في ذلك، فإن الشعب السوري بأكمله، وبالأخص الأقليات، سيكون أمام محرقة جديدة، قد تجعلهم يتحسرون على أيام بشار الأسد وحافظ الأسد، على الرغم من جرائمهم التي لا تُحصى.

إن النظام السوري والمعارضة العنصرية كلاهما وجهان لعملة واحدة، فكلاهما يفتقر إلى الرؤية الحقيقية لبناء دولة جامعة وشاملة. في ظل هذا المشهد القاتم، تبدو الخيارات محدودة للغاية. ومع ذلك، إذا ما أُريد لسوريا أن تتجنب سيناريو المحرقة الذي يلوح في الأفق، فإن الحل الوحيد يكمن في تبني نظام سياسي جديد يعكس التنوع الحقيقي للمجتمع السوري. يجب أن يكون الرئيس القادم، على سبيل المثال، من العلويين أو الدروز أو الكورد أو المسيحيين. ليس لأن ذلك يمثل استثناءً، بل لأن ذلك سيبعث برسالة واضحة بأن سوريا الجديدة قائمة على العدالة والمساواة، بعيداً عن هيمنة الأغلبية الطائفية أو الإقصاء العنصري.

ما نشهده اليوم هو تهور سياسي وانعدام رؤية يقود سوريا إلى هاوية لا تُحمد عقباها. إن مصير البلاد لا يزال معلقاً بين أيدي قوى لا تملك إلا مشاريع تدميرية، سواء من داخل النظام أو المعارضة. المطلوب هو كسر هذه الدائرة الجهنمية وإعادة تعريف مفهوم الدولة السورية على أسس جديدة تضمن حقوق الجميع، وتجنب البلاد الكوارث المستقبلية التي تلوح في الأفق.

أما بالنسبة للكورد، يجب أن نتحدث بصراحة وواقعية بعيداً عن الأحلام الوردية أو التعلق بالتصريحات الدولية التي غالباً ما تكون مليئة بالنفاق والمصالح الضيقة. لا يمكن الاعتماد على التصريحات الإسرائيلية أو الوعود الأمريكية أو الروسية، فهذه القوى العالمية، رغم نفوذها، لا تقدم شيئاً إلا إذا كان يخدم مصالحها الاستراتيجية المباشرة. تاريخياً، إذا كانت الولايات المتحدة جادة في دعم الحقوق الكوردية، لكانت قد اعترفت بها منذ عقود، أو على الأقل عند بداية الأزمة السورية، حينما كان للكورد دور حاسم في محاربة تنظيم "داعش" الإرهابي.

لكن الحقيقة المؤلمة هي أن المصالح الجيوسياسية تأتي أولاً وأخيراً. الولايات المتحدة ليست مستعدة للتضحية بعلاقاتها مع تركيا أو غيرها من الدول الإقليمية القوية من أجل حقوق الكورد. ما يجري اليوم من وعود أو تصريحات هنا وهناك ليس أكثر من ضجيج سياسي أو محاولات لكسب الوقت وتحقيق مصالح قصيرة الأمد. لذلك، يجب أن يعي الكورد هذه الحقيقة جيداً: لا دولة كوردية قريبة في الأفق، ولا حقوق يمكن الحصول عليها من خلال هذه القوى الدولية بعقلية الانتظار أو الاعتماد على الآخرين.

ما أريد أن أقوله هنا بوضوح للكورد هو أن السبيل الوحيد لتحقيق أي مكاسب حقيقية يبدأ من الداخل، من الاتحاد بين صفوفكم وتوحيد جهودكم. الانقسام الداخلي هو العدو الأكبر للكورد، وهو السبب الأول في ضعف القضية الكوردية أمام التحديات الإقليمية والدولية. إذا كان الكورد يريدون الحفاظ على مكتسباتهم، أو حتى بناء مستقبل أفضل، فإن الخطوة الأولى هي تجاوز الانقسامات الحزبية الضيقة والعمل بروح قومية جماعية.

في هذا السياق، يصبح جلب قوات "بيشمركة روج" إلى مناطق روج آفا خطوة ضرورية، خاصة لتأمين الشريط الحدودي بين سوريا وتركيا. وجود قوة موحدة ومدربة تحت راية واحدة سيوجه رسالة قوية لجميع الأطراف، سواء كانت إقليمية أو دولية، بأن الكورد ليسوا مجرد أداة في يد القوى الكبرى، بل قوة منظمة لديها مشروع واضح للدفاع عن أراضيها وحقوقها.

لكن هذه الخطوة لن تكون كافية ما لم ترافقها استراتيجية سياسية حكيمة. يجب أن يتجنب الكورد الوقوع في فخ الاستقطاب بين القوى الإقليمية والدولية، وأن يبنوا علاقاتهم الدبلوماسية بشكل متوازن مع جميع الأطراف. كما يجب عليهم توحيد خطابهم السياسي والعمل على تقديم مشروع متكامل يوضح رؤيتهم لسوريا المستقبل، كدولة ديمقراطية تعددية تضمن حقوق جميع مكوناتها.

إن الطريق ليس سهلاً، والتحديات كبيرة، لكن التاريخ أثبت أن الحقوق لا تُمنح بل تُنتزع. إذا ما استمر الكورد في التفرقة والاعتماد على الوعود الخارجية، فإنهم لن يجدوا إلا الخيبة. أما إذا اتحدوا وعملوا بجدية ووعي، فإنهم قادرون على تحقيق مكتسبات تضمن لهم مكانة حقيقية في مستقبل المنطقة.

أضف تعليق


كود امني
تحديث

X

تحذير

لا يمكن النسخ!