الوضع السوري: ضرورة الفيدرالية كحل عادل وشامل لمستقبل سوريا
بقلم: د. عدنان بوزان
في خضم المعاناة الطويلة التي يعيشها الشعب السوري منذ اندلاع الصراع، ومع تشابك الأبعاد السياسية والاجتماعية والطائفية والعرقية التي أفرزتها سنوات الحرب، يبرز أمامنا سؤال جوهري: كيف يمكن لسوريا أن تجد طريقها نحو الاستقرار والسلام المستدام؟ الجواب ليس بسيطاً، لكنه أيضاً ليس غامضاً. التجارب التاريخية تؤكد أن المجتمعات التي تحتضن التنوع وتديره بطريقة عادلة وديمقراطية هي المجتمعات الأكثر استقراراً وازدهاراً. ومن هنا، أرى أن لا حل في سوريا إلا عبر تبني نظام الدولة الفيدرالية كإطار دستوري يضمن الحقوق والمشاركة العادلة لجميع مكونات الشعب السوري، بما في ذلك حقوق الشعب الكوردي، التي لا يمكن أن تكون محل تفاوض أو مساومات سياسية.
1- الفيدرالية كإطار للعدالة والمساواة:
الفيدرالية ليست مجرد نظام سياسي لتوزيع السلطات بين المركز والأقاليم؛ إنها فلسفة تعكس الاعتراف بالتعددية والتنوع كقيمة مجتمعية عليا. سوريا، التي تضم شعوباً وقوميات متعددة من العرب والكورد والسريان والآشوريين وغيرهم، لا يمكن أن تستقر في إطار دولة مركزية استبدادية. هذه المركزية أثبتت فشلها تاريخياً في التعامل مع التنوع السوري، بل كانت سبباً مباشراً في إشعال فتيل الأزمات المتكررة.
النظام الفيدرالي يُمكّن جميع الأطراف من ممارسة حقوقها السياسية والثقافية والاقتصادية، ويعطي لكل منطقة الحق في إدارة شؤونها الداخلية ضمن إطار الوحدة الوطنية. هذا الحل ليس تقسيماً لسوريا كما يدّعي البعض، بل هو ضمان لبقائها موحدة بشكل عادل. التجربة الفيدرالية في إقليم كوردستان العراق تثبت أن الاعتراف بحقوق الأقاليم يعزز الاستقرار، ويوفر فرصة للنمو الاقتصادي والاجتماعي، وهو ما يجب أن يكون نموذجاً يحتذى به في سوريا المستقبل.
2- حقوق الشعب الكوردي: بين الإهمال التاريخي وضرورة الإنصاف:
الشعب الكوردي، الذي يمثل أحد المكونات الأساسية في النسيج السوري، عانى على مر العقود من التهميش والاضطهاد. لم يكن هذا التهميش مجرد صنيعة النظام المخلوع، بل هو نتيجة تراكمية لسياسات الدولة المركزية التي تعاملت مع الكورد كتهديد بدلاً من الاعتراف بهم كشركاء في بناء الوطن. من القوانين العنصرية التي سحبت الجنسية من آلاف الكورد، إلى محاولات طمس الهوية الكوردية ثقافياً ولغوياً وسياسياً، لم تترك الحكومات السورية السابقة أي فرصة إلا واستغلتها لإضعاف الكورد سياسياً واجتماعياً.
اليوم، وبعد سنوات من الحرب، نرى أن بعض الأحزاب الكوردية السورية نفسها تساهم في استمرار هذا الواقع المؤلم من خلال انخراطها في تسويات سياسية أو تحالفات لا تخدم المصلحة الكوردية. هذه الأحزاب، التي أثبتت فشلها في تمثيل تطلعات الشعب الكوردي بشكل حقيقي، تحاول اللعب بمصير هذا الشعب عبر التنازل عن حقوقه المشروعة مقابل مكاسب سياسية قصيرة الأمد.
لكن الشعب الكوردي يرفض هذا العبث بمصيره. نحن، ككرد، لا نقبل بأي حل لا يثبت حقوقنا دستورياً ويضمن لنا إقليماً فيدرالياً يوازي في صلاحياته وحقوقه إقليم كوردستان العراق. أي محاولة للتلاعب بهذا المطلب أو الالتفاف عليه هي محاولة مرفوضة جملةً وتفصيلاً، وسنقف في وجهها بكل الوسائل المتاحة.
3- فشل الأحزاب الكوردية السورية:
أزمة تمثيل وعبرة سياسية: لا يمكن الحديث عن حقوق الشعب الكوردي دون الإشارة إلى الدور السلبي الذي لعبته العديد من الأحزاب الكوردية السورية في هذه المرحلة المصيرية. هذه الأحزاب، التي فشلت في بناء رؤية موحدة تخدم الشعب الكوردي، أصبحت أدوات في أيدي أطراف إقليمية ودولية، تتبع مصالحها الخاصة بدلاً من مصالح شعبها.
لقد آن الأوان لتجاوز هذه النماذج السياسية البالية التي أثبتت عجزها. الشعب الكوردي اليوم بحاجة إلى قيادة جديدة تمتلك رؤية واضحة تستند إلى حقائق الواقع وتطلعات المستقبل، قيادة تستطيع التفاوض بثقة وصلابة، وتكون على استعداد للدفاع عن حقوق الشعب الكوردي دون تردد أو خضوع للضغوط.
4- الفيدرالية ضمان لبقاء سوريا موحدة:
في هذا السياق، من المهم أن يدرك الجميع أن النظام الفيدرالي ليس مطلباً كردياً فحسب، بل هو ضرورة وطنية لضمان استقرار سوريا ككل. الأزمات التي تعيشها سوريا اليوم ليست فقط نتيجة الاستبداد السياسي، بل أيضاً نتيجة الفشل في إدارة التنوع. المركزية المطلقة، التي تعتمد على فكرة "الحكم الواحد والقرار الواحد"، أثبتت عدم قدرتها على التعامل مع واقع التعددية. سوريا بحاجة إلى عقد اجتماعي جديد يعيد تعريف العلاقة بين المركز والأطراف على أساس الشراكة والمساواة.
5- دعوة إلى المسؤولية التاريخية:
إن تحقيق نظام فيدرالي عادل في سوريا يتطلب شجاعة من جميع الأطراف، وخاصة من القوى السياسية الحاكمة والمعارضة على حد سواء. يجب أن ندرك أن استمرار الوضع الراهن، حيث يتم تجاهل حقوق مكونات الشعب السوري، لن يؤدي إلا إلى مزيد من التفكك والانقسام. الحلول الجزئية أو المؤقتة لن تجدي نفعاً. إن الحل الوحيد الذي يمكن أن يضمن استقرار سوريا هو حل شامل يقر بحقوق الجميع، بما في ذلك حق الشعب الكوردي في إقليم فيدرالي دستوري.
على القوى الكوردية، بمختلف أطيافها، أن تدرك أن الشعب الكوردي لم يعد يقبل التنازل أو المساومة على حقوقه. نحن بحاجة إلى وحدة صف حقيقية تُظهر للعالم أن الكورد ليسوا مجرد مكون تابع أو هامشي، بل هم جزء أساسي من الهوية الوطنية السورية، وشريك في بناء مستقبلها.
6- نحو سوريا جديدة:
إن سوريا التي نحلم بها هي سوريا قائمة على الديمقراطية والتعددية، حيث يتمتع الجميع بحقوقهم دون خوف أو تمييز. سوريا التي لا تكون فيها المركزية الاستبدادية هي السمة السائدة، بل تكون فيها الفيدرالية رمزاً للعدالة والمساواة. هذا هو التحدي الذي يقف أمامنا جميعاً، وهذا هو المستقبل الذي يجب أن نعمل على تحقيقه.
الفيدرالية ليست رفاهية أو خياراً جانبياً؛ إنها ضرورة حتمية لبناء وطن يستوعب الجميع. والسؤال الذي يجب أن نطرحه على أنفسنا اليوم هو: هل نحن مستعدون لتبني هذه الرؤية؟ وهل نحن على استعداد لتجاوز الانقسامات والضغائن من أجل مستقبل سوريا الموحد؟ الإجابة، مهما كانت صعبة، هي مسؤوليتنا جميعاً.