قراءة في المشهد الجيوسياسي: سوريا بين مطرقة التطرف وسندان الديمقراطية

بقلم: د. عدنان بوزان

شهدت سوريا خلال العقد الأخير تحوّلات جذرية جعلتها نموذجاً صارخاً للفوضى الجيوسياسية التي تعصف بالمنطقة. فمنذ اندلاع ما عُرف بـ"الثورة السورية"، انزلقت البلاد تدريجياً من مطلب الحرية والديمقراطية إلى مستنقع التطرف، حيث أصبحت ساحة تتقاطع فيها أجندات دولية وإقليمية متشابكة.

في خضم هذه الفوضى، يجد السوريون أنفسهم عالقين بين مطرقة الجماعات المتطرفة التي كرّست حالة من الرعب والدمار، وسندان القوى الكبرى التي تروّج لحلول سياسية تحت شعار الديمقراطية، بينما تُخفي وراءها مصالح استراتيجية عميقة.

هذه القراءة تسعى إلى تفكيك هذا المشهد المركب، عبر تسليط الضوء على التحوّلات التي دفعت سوريا إلى هذا المصير المأساوي، بدءاً من ظهور تنظيمات مثل "داعش"، وصولاً إلى التحركات الدولية الرامية لإعادة تشكيل المنطقة وفق رؤى جديدة. فهل ما يحدث هو نتيجة مؤامرة مدبرة؟ أم أنه تعبير عن انهيار طبيعي لدولة لم تستطع مواكبة تطلعات شعبها؟

تُعتبر الحالة السورية نموذجاً معقداً للتلاعبات الجيوسياسية والمصالح الدولية والإقليمية. إذ لم تعد سوريا مجرد دولة مأزومة تبحث عن مخرج لأزماتها الداخلية، بل باتت ميداناً مفتوحاً للتجاذبات بين القوى الكبرى والإقليمية. قولاً واحداً "سوريا انتهت" ليس مجرد توصيف لحالة انهيار مؤسسات الدولة أو تفكك النسيج الاجتماعي، بل هو تعبير عن التحوّل البنيوي العميق الذي شهدته البلاد، بحيث أصبحت بيئة حاضنة للكيانات المتطرفة من جهة، ومسرحاً لإعادة رسم خرائط النفوذ من جهة أخرى.

- من "الثورة" إلى "داعش": تفكيك الخديعة:

مع بداية ما سُمّي بـ"الثورة السورية" في عام 2011، جرى تقديم المشهد على أنه صراع بين الشعب والنظام. لكن مع مرور الوقت، تكشّف الوجه الآخر لهذه الحركة، حيث تسللت الجماعات الراديكالية وفرضت حضورها على الساحة. ظهور تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) لم يكن صدفة تاريخية، بل جاء كجزء من عملية مدروسة تهدف إلى توجيه بوصلة الصراع نحو الإرهاب، مما أتاح للقوى الدولية التدخل تحت ذريعة محاربته.

الربط بين ظهور "داعش" وما يُسمى بـ"الثورة السورية" ليس مجرد تحليل عابر؛ فالتزامن بين تحوّل الثورة إلى نزاع مسلح وظهور التنظيم يوحي بوجود خطة مسبقة لإعادة هيكلة المنطقة. دخول القوى الغربية تحت شعار "محاربة الإرهاب" لم يكن سوى أداة لتثبيت نفوذها وترسيخ أجنداتها الجيوسياسية.

- هروب بشار الأسد وموسكو كبديل:

لعلّ من أبرز التحولات التي حدثت بعد سنوات من النزاع كان الحديث عن هروب بشار الأسد إلى موسكو. هذا الحدث لم يكن مجرد انسحاب تكتيكي لرئيسٍ متشبّث بالسلطة، بل بدا وكأنه جزء من تفاهمات أوسع بين القوى الكبرى. موسكو أعادت صياغة المشهد السوري عبر تقوية حلفائها وإعادة تعريف "الإرهاب" وفق مصالحها. محاولتها إزالة هيئة تحرير الشام من قائمة الإرهاب تُظهر بوضوح أن المسألة ليست مرتبطة بمبادئ أو قيم، بل بخطط استراتيجية لإعادة تدوير بعض الفاعلين المحليين ليصبحوا أدوات قابلة للاستخدام.

- الغرب وهيئة تحرير الشام: إعادة الترتيب:

تُهرول الدول الغربية اليوم لإعادة تأهيل دمشق وإدماجها في النظام الدولي، وذلك عبر تقديم مساعدات وفتح قنوات سياسية ودبلوماسية. لكن اللافت هو الدور المستقبلي الذي يُرسم لهيئة تحرير الشام، وهي التي كانت في السابق مصنفة كجماعة إرهابية. هذا التحول السريع يثير تساؤلات عميقة حول أهداف القوى الدولية. هل تسعى بالفعل إلى بناء سوريا ديمقراطية أم إلى إنشاء دولة "داعشية" بواجهة سياسية أكثر مرونة؟

- طبخة قبل 2011: مؤامرة كبرى أم تغيّر عفوي؟:

كل هذه المؤشرات تقودنا إلى افتراض أن المخطط الحالي لم يبدأ في 2011، بل ربما كان يُطبخ منذ سنوات طويلة. انهيار العراق في 2003، وتنامي التيارات الجهادية في المنطقة، والربيع العربي، جميعها مراحل مهّدت لصياغة شرق أوسط جديد. سوريا لم تكن سوى إحدى المحطات الرئيسية في هذا المشروع، حيث أصبحت مختبراً لاختبار سيناريوهات متعددة لإعادة تشكيل الشرق الأوسط.

من جانب آخر، سكوت إسرائيل إزاء وصول هيئة تحرير الشام المصنفة إرهابياً إلى دمشق يُثير تساؤلات عميقة حول طبيعة الأدوار التي تلعبها القوى الإقليمية في إعادة تشكيل المشهد السوري. فعلى الرغم من التصريحات العلنية التي تصدر أحياناً عن القيادات السياسية الإسرائيلية بدعم الكورد، إلا أن هذا الدعم يبدو أشبه بالتصريحات الخلبية التي تفتقر إلى أي خطوات عملية على الأرض. وما يزيد المشهد تعقيداً هو الصمت الإسرائيلي حيال التهديدات التركية المتكررة باجتياح مناطق شرق الفرات والقضاء على الوجود الكوردي هناك.

نسأل هنا: أين هو "الدعم الإسرائيلي للكورد" الذي يتم الترويج له؟ أم أن هذا الدعم مجرد أداة تستخدمها إسرائيل في خطابها السياسي، دون أن تكون لها نية حقيقية لمواجهة المصالح التركية أو التأثير في الواقع الميداني؟ هذا الصمت يعكس، ربما، توافقاً ضمنياً بين القوى الكبرى والإقليمية لإعادة ترتيب الأوراق في المنطقة، على حساب الأطراف الضعيفة التي تجد نفسها عالقة بين معادلات القوة.

- خاتمة: سوريا إلى أين؟

الواقع السوري اليوم يشير بوضوح إلى أن فكرة "إعادة بناء سوريا الديمقراطية" باتت أقرب إلى الوهم، في ظل المعطيات الحالية. التحولات على الأرض تُظهر أن المنطقة تتجه نحو تكريس نموذج جديد لدولة متطرفة تحمل ملامح داعشية بواجهة سياسية مختلفة. هذا التحول لن يكون إلا جزءاً من إعادة تشكيل موازين القوى في الشرق الأوسط، حيث تتحكم القوى الكبرى في تفاصيل اللعبة، بينما يتحوّل الشعب السوري إلى ضحية للصراعات والمصالح الكبرى.

أضف تعليق


كود امني
تحديث

X

تحذير

لا يمكن النسخ!