نحو الأفق: رحلة الأمم من الظل إلى النور
بقلم: د. عدنان بوزان
الأمم كالأشجار في تجلياتها ووجودها، تنمو وتثمر بمقدار ما تغرس في أرض الواقع من عرق وجهد وعلم. الأمة التي تواجه غول الفقر بالدعاء دون عمل، وتحاول ردع شبح الفساد بخطب المنابر دون قانون، وتسعى لمواجهة هوة البطالة بالزواج والإنجاب دون خطة واضحة للتنمية، هي أمة تشبه غصناً يحاول أن يعانق السماء دون جذور.
فالدعاء، وإن كان من قوى الروح المعنوية التي تساند النفس البشرية، يجب أن يكون رفيق العمل لا بديل عنه. إنه كالماء الذي يروي الزرع، لكن دون تربة خصبة وبذور مغروسة، لا يثمر شيئاً. العمل هو تلك البذور التي تحتاج إلى الغرس في تربة الواقع، والدعاء هو الماء الذي يعين على نموها وازدهارها.
وخطب المنابر، بكل ما تحمله من قوة في التأثير على النفوس وتوجيه العقول، يجب أن تكون مرآة للعمل على الأرض، تعكس ما يتم بناؤه بأيدي البشر. فإذا اقتصرت الخطب على التنظير دون تفعيل هذه النظريات في ساحة الواقع، فإنها تتحول إلى صدى في وادٍ خالٍ، يتردد دون أن يلقى آذاناً صاغية أو أيادي عاملة.
أما الزواج والإنجاب، وهما من سنن الحياة ومقومات الاستمرارية للمجتمعات، فعندما يُنظر إليهما كحلول لمشكلة البطالة، فهو كمن يحاول إطفاء حريق بالزيت. إنجاب الأجيال دون تخطيط لمستقبلهم وتأمين فرص عمل تتناسب مع عددهم وطموحاتهم، يزيد من أعباء الأمة بدلاً من أن يكون سبيلاً لنهضتها.
فالأمة التي تعتمد على هذه الأساليب في مواجهة تحدياتها، هي أمة لا تنبض بالحياة في عروقها، بل تعيش في ظلال الماضي، تردد أصداء أمجاد غابرة دون أن تخلق لنفسها مجداً يواكب زمانها. وإكرام الميت دفنه، لكن الأمة الحية تستطيع دائماً أن تجدد من روحها، وتزرع في أرض الواقع بذور الأمل والعمل، لتحيا من جديد، فالموت ليس نهاية الحياة فحسب، بل هو نهاية الفرصة للتغيير والتجديد. لكن الأمم، على عكس الأفراد، تملك القدرة على إعادة توليد ذاتها، وتجديد روحها، واستعادة عافيتها بمجرد أن تتخذ قراراً بالتغيير والسير قدماً نحو الأمام، مستلهمة من تراثها القيم والدروس، لا أن تعيش في ظله كظلال بلا حياة.
إن الأمة التي تجد في نفسها القوة للنهوض من كبوتها، لتنظر إلى الأفق بعيون مفعمة بالأمل والإيمان بالقدرة على العمل والتغيير، هي أمة لا تموت. الإيمان بالعمل، والتخطيط المستقبلي، وتعزيز قيم العدالة والشفافية، واستثمار الطاقات البشرية في بناء الأمة، هي السبل التي بها تتجدد الأمم وتحيا.
الدعاء يجب أن يكون مصحوباً بالعمل الدؤوب، والخطب يجب أن تكون محفزة للعمل والإنتاج، والزواج والإنجاب يجب أن يتم في إطار من التخطيط السليم الذي يراعي المستقبل. إن العبرة ليست بمجرد الحياة، بل بالحياة الكريمة التي تسعى الأمة لتحقيقها لأبنائها، بناءً على أسس من العلم والمعرفة والعدل والمساواة.
في النهاية، الأمة التي تواجه تحدياتها بالدعاء وحده، وتلوذ بخطب المنابر دون تطبيق، وترى في الزواج والإنجاب حلاً للبطالة دون تخطيط، هي أمة بحاجة إلى إعادة تقييم شامل لنهجها في الحياة. ولكن، بالإرادة والعزيمة، يمكن لها أن تتحول من أمة تعيش في الظل إلى أمة تشع بالنور، تصنع التاريخ بدلاً من أن تعيش في تاريخ صنعه آخرون. الحياة مستمرة، والتجدد هو سنة الحياة، وكل أمة قادرة على أن تجدد من روحها وتعيد كتابة مصيرها بأيدي أبنائها، متى ما قررت ذلك.
لكن القرار بالتجديد والتغيير ليس قراراً يُتخذ في لحظة ضعف أو يأس، بل ينبغي أن يكون نابعاً من إدراك عميق بالحاجة إلى تطوير الذات والمجتمع، ومن الإيمان الراسخ بأن الأمم، مهما كانت تحدياتها، لديها القدرة على التغلب عليها، والارتقاء نحو آفاق جديدة من النماء والازدهار.
التاريخ يُعلمنا أن الأمم التي استطاعت تحقيق النهضة والتقدم، هي التي أدركت أهمية التوازن بين الروحانيات والماديات، بين الدعاء والعمل، بين الأخلاق والقانون. هذه الأمم لم تقف عند حدود التراث والماضي فحسب، بل جعلت من تراثها جسراً للعبور نحو المستقبل، ومن ماضيها منطلقاً لصياغة حاضرها وتشكيل غدها.
فالإصلاح والتغيير يبدأ من إعادة النظر في طريقة تفكيرنا ومنهجنا في التعامل مع الأزمات والتحديات. يتطلب الأمر إعمال العقل والضمير معاً، والاستفادة من كل الإمكانيات المتاحة، سواء كانت مادية أو معنوية، لبناء مستقبل أفضل. يتطلب الأمر كذلك العمل الجماعي والوحدة والتكاتف بين أفراد الأمة، لتوجيه الجهود نحو هدف مشترك هو النهوض بالأمة وتحقيق العدالة والمساواة.
من هذا المنطلق، يجب على الأمم أن تعي أهمية تطوير نظم التعليم والصحة والعدالة، وأن تستثمر في البحث العلمي والتكنولوجيا، وأن تعزز مشاركة الشباب في عملية صنع القرار. كما يجب عليها أن تعيد النظر في سياساتها الاقتصادية والاجتماعية، لتكون أكثر عدلاً وشمولية، وأن تحارب الفساد بكل أشكاله، وأن تضع مصلحة الوطن والمواطنين فوق كل اعتبار.
في النهاية، الأمة التي تسعى للنهوض والتجدد، هي أمة تؤمن بأن مصيرها بيدها، وأن الغد يُبنى بجهود اليوم، وأن الدعاء يجب أن يكون مصحوباً بالعزيمة والإرادة والعمل المتواصل. هي أمة تعي أن الحياة معركة مستمرة للتحسين والتطور، وأن كل خطوة مدروسة نحو الأمام، مهما كانت صغيرة، تعد إنجازاً يبني لمستقبل أفضل.
هذه الأمة تدرك أن التحديات التي تواجهها ليست عقبات مستحيلة، بل هي فرص للتعلم والنمو. إنها تفهم أن النجاح لا يأتي دون تحديات، وأن الصعوبات التي تظهر في طريق النهوض هي اختبارات لصلابتها وعزيمتها. لذا، تستمر في السعي والعمل الجاد، متسلحةً بالأمل والإيمان بقدراتها، مدركةً أن مستقبلها بين يديها.
الأمة التي تتبنى هذه الرؤية تصبح قادرة على تحويل أحلامها إلى واقع، ومشاكلها إلى حلول. تستطيع بذلك أن تخلق بيئة تزدهر فيها الإبداعات وتتفتح فيها آفاق جديدة لأجيالها القادمة، بيئة يعمها السلام والاستقرار والازدهار.
في نهاية المطاف، النهضة والتجدد ليستا مجرد حلم يُراد تحقيقه، بل هما عملية مستمرة من التفكير والتخطيط والتنفيذ، تتطلب الصبر والمثابرة والإيمان بالقيم الإنسانية العليا. إنها تتطلب جهوداً جماعية متكاتفة، تسعى ليس فقط لمواجهة التحديات الراهنة، بل لترك أثر إيجابي دائم يستفيد منه الأجيال القادمة. هكذا تحيا الأمم، وهكذا تترك بصمتها على صفحات التاريخ.