نحو التحرر والواقعية: رحلة الإنسان في عبور الأوهام الدينية
بقلم: د. عدنان بوزان
في قلب الفكر الإنساني تقبع الأسئلة المتعلقة بالوجود والمعنى والغاية، وتظل الديانات عبر التاريخ إحدى الوسائل التي لجأ إليها الإنسان في محاولة لإيجاد إجابات على هذه الأسئلة الكبرى. إلا أن النقاش الفلسفي المعاصر يدفعنا لاستكشاف آفاق جديدة في فهم الدين والإيمان وتأثيرهما على الوعي الإنساني وتطور الحضارات.
في عمق النقاش الفلسفي حول دور الدين في الحياة الإنسانية، تبرز فكرة تصور الدين كعصاب جماعي، وهي فكرة تنبثق من التناقض الذي يعيشه الإنسان بين حاجته العميقة للعزاء الذي يقدمه الوهم الديني وبين رغبته في مواجهة الواقع بكل قسوته وتحدياته. هذا التصور يعيد طرح السؤال الأزلي حول ماهية الدين ودوره في تكوين الوعي الإنساني وإدارته للصراع الداخلي بين الذات والعالم الخارجي.
الدين، من هذا المنظور، يتحول إلى وسيلة دفاعية يستخدمها الإنسان للهروب من قسوة الواقع وعبء الوجود، موفراً نوعاً من السكينة والراحة في مواجهة الأسئلة التي لا إجابة لها والمصائر الغامضة. إلا أن هذه الوظيفة الدفاعية تطرح بدورها تحديات فلسفية عميقة حول الحرية الإنسانية وقدرة الفرد على تحمل المسؤولية الكاملة عن وجوده ومصيره.
التناقض المطروح يفتح باباً لاستكشاف فكرة أن الإنسان، عندما يتربى في بيئة تحرره من التبعية الدينية وتعلمه الاعتدال والرصانة، قد يجد في نفسه القدرة على مواجهة الواقع بكل ما يحمله من تحديات دون الحاجة إلى "السكر" الذي يوفره الدين للنفوس المتعبة. ومع ذلك، فإن هذه الرحلة نحو الاستقلال الوجودي والتحرر من العزاء الديني لا تخلو من مصاعبها، إذ يجد الإنسان نفسه مجبراً على الاعتراف بضآلته في مجموع الكون وفقدان الأمان الوهمي الذي كان يوفره الإيمان بعناية إلهية مجانية.
يطرح هذا النقاش فلسفياً مفهوم "التربية في اتجاه الواقع" كمرحلة حتمية في تطور الوعي الإنساني، حيث يتوجب على الفرد تجاوز مرحلة الصبيانية الروحية والنفسية ليدخل في حقل الواقع بكل قسوته وعدم يقينه. هذا التحول يتطلب شجاعة فائقة واستعداداً لقبول الحياة كما هي، بدون تزيين أو تهوين، مما يفتح آفاقاً جديدة للنمو الروحي والفكري القائم على التفاعل المباشر مع العالم، بعيداً عن الحماية الوهمية التي قد يقدمها الدين. هذه الآفاق تمنح الفرد إمكانية إعادة تشكيل فهمه للوجود، واستقلاله الذاتي، وعلاقته بالكون.
في هذا السياق، يتجلى السؤال حول ما إذا كان بالإمكان وجود نوع من الروحانية العلمانية أو الأخلاقية التي تستند إلى قيم العقلانية والتسامح والاعتماد على الذات، بدلاً من الاستناد إلى معتقدات وطقوس دينية محددة. هذه الروحانية الجديدة قد تقدم للإنسان قاعدة صلبة يستطيع من خلالها مواجهة تحديات الحياة والبحث عن معنى وجودي أكثر تجذراً في الواقع والتجربة الإنسانية.
من هذه النقطة، يظهر تحدي إعادة تعريف مفهوم الإنسانية نفسها في ضوء تجاوز النظرة الدينية التقليدية. هذا التحدي يتطلب منا التفكير في كيفية بناء مجتمعات تعترف بضعف الإنسان وتحددوه، وفي الوقت ذاته تحتفي بقدرته على الإبداع، والتعاطف، والنمو. يتطلب أيضاً البحث عن أسس جديدة للتضامن الإنساني تتخطى الانقسامات الدينية وتبني على فهم مشترك للكرامة الإنسانية والحق في البحث عن السعادة والمعنى.
في الختام، السعي وراء "التربية في اتجاه الواقع" يتحول إلى مشروع فلسفي وأخلاقي ضخم يدعو الإنسان إلى مواجهة الحياة بكل تعقيداتها وجمالها، دون اللجوء إلى الأوهام الدينية كوسيلة للهروب من الواقع. هذا النهج لا ينكر بالضرورة البعد الروحي للوجود، بل يعيد توجيهه نحو استكشافات جديدة تعتمد على القدرة البشرية على التعاطف والتفكير والإبداع. إنه يفتح الباب أمام تصور جديد للحياة، حيث يصبح الإنسان مسؤولاً بشكل كامل عن تحديد مساره، وجد معنى في تجربته الشخصية والجماعية في هذا العالم.