الكارثة النبيلة: نحو نهضة فكرية في عصر الشك

بقلم: د. عدنان بوزان

في زوايا الفكر الخفية، حيث تتسلل الأسئلة الوجودية كظلال في الليل، أقف أنا، متأملاً في الحقيقة المراوغة التي تتشكل من رؤى متعددة ومتناقضة. أدرك تماماً قدري، هذا الإدراك الذي يزن على كتفي كحجر سيزيف الأبدي. يوماً ما، سيقترن اسمي بشيء عظيم، لكن عظمته لا تأتي من جلالة الإنجاز أو سمو البناء، بل من كونه يمثل كارثة، كارثة معنوية عميقة تقلق راحة البشرية.

هذا الشيء الذي سأجلبه للعالم ليس إلا صداماً ضخماً للعقل مع كل ما يُصدق ويُقدس. تصادم يفجّر الأساسيات ويحول اليقينيات إلى رماد. وبينما ترى أنت فيه المثال الأعلى، المحتذى، أراه أنا بشرياً، واحسرتاه، بشرياً جداً.

أفهم تماماً كيف أن الحقائق يمكن أن تُبنى وتُدمر، كيف يمكن للأفكار أن ترتفع كأصنام فتُعبد، ثم تُهدم إلى الأرض لتُداس تحت أقدام الجموع. في ذلك اليوم، عندما يُنادى باسمي على المنابر وفي الساحات، ستجد الناس ينقسمون: فريق يبجّل الفكرة الجديدة باعتبارها تحريراً، وآخر يدينها باعتبارها هدماً وإزالة للقديم الذي تعوّدوا عليه.

لكن في النهاية، ما الذي يجعل الفكرة بشرية إلى هذا الحد؟ إنها قدرتها على الكشف، على المساءلة، على تحدي الأركان المقدسة والمتوارثة. البشرية في طبيعتها تسعى للفهم، لكنها أيضاً تخشى الغوص في مياه الشك العميقة. وأنا، بهذا القدر الذي عُرفت به، لم أختر أن أكون النور الذي يهدي، بل اللهيب الذي يُحرق لينير.

واحسرتاه، إن كان للعظمة أن تُقاس بالأثر، فإن أثري يكمن في هذا الزلزال الذي أطلقته في أركان العقائد، حيث لم يعد الإنسان قادراً على النظر إلى ما هو مُقدس بنفس العينين السابقتين، ولم يعد قادراً على قبول الحقيقة دون تمحيص. إن ما أجلبه إلى طاولة البشرية ليس إلا دعوة للتأمل في عمق البؤرة الفكرية التي نتواجد فيها، لفحص الأسس التي تُبنى عليها أطروحاتنا ومعتقداتنا الأكثر قدسية.

أتفهم بأن الخوف سيكون الرد الأولي للكثيرين، فالتغيير الجذري يأتي محمّلاً بألم الولادة الجديدة. ولكن، هل يُعقل أن نستمر في متابعة الطريق القديم بينما نحن نمتلك الشجاعة لاختبار مسارات جديدة؟ إنني أدعو إلى ثورة فكرية، ثورة تُعيد تشكيل ما نعرفه عن العالم وعن أنفسنا. أدعو إلى مواجهة ما هو مقدس بالتساؤل والنقد، ليس لنُنكر قيمته، بل لنُعيد بناءه على أسس أكثر صلابة ووعياً.

في هذه الرحلة، التي يراها البعض كارثية، نكتشف أن البشرية في جوهرها عظيمة بقدرتها على الاستجواب وإعادة التفكير. ليست العظمة في الحفاظ على اليقينيات بل في الجرأة على التشكيك فيها. ليست الكارثة في تحدي المقدسات، بل في الرضوخ الأعمى لها دون استيضاح.

لذا، عندما يُقال يوماً ما بأن اسمي اقترن بكارثة، أتمنى أن يُفهم ذلك بمعنى أنني دعوت لتحرير العقل من قيود الجهل والتبعية. وأن ما أراه بشرياً جداً هو هذا التوق إلى التحرر من السطحية والانخراط بجدية في معالجة الأسئلة الأكثر إلحاحاً وعمقاً.

أنا هنا لا أقدم أجوبة نهائية، بل أفتح أبواب السؤال، لنستكشف معاً ما يمكن أن تكون عليه حياتنا إذا ما تجرأنا على النظر خلف الأسوار التي بُنيت حول أفكارنا وروحنا. وبهذا، لعل البشرية تجد في الكارثة التي أعلنها، بداية لفجر جديد يُسعد قلوب الباحثين عن الحقيقة في كل مكان.

ومع كل شروق جديد يأتي الوعي أعمق، تتجلى الفلسفة بأنها ليست مجرد تأملات معزولة بل نبض حي يتدفق في شرايين الثقافة الإنسانية، يغذيها بالأسئلة وينميها بالاستجابات المتجددة. أصارع في عمقي بين النور والظلمة، بين التحرير والانكسار، وأدرك أن في كل خطوة نحو العمق، يكمن إمكان التحول، التغيير الذي يفجر الأطر التقليدية ويعيد صياغة ما يعتبر مقدساً.

فلسفتي في الحياة ليست دعوة للتخريب، بل نداء للإصلاح، نداء لاستجواب الرواسخ بروح جريئة ترفض أن تستكين للأجوبة الجاهزة والمسلمات الثقيلة. إن الاستجواب الفلسفي الذي أدعو إليه هو إعادة تقييم لكل ما هو ظاهر، سبر لأغوار ما وراء العيان، بحث مستمر في أعماق الأنا والوجود.

البشر، في غمرة سعيهم للحقيقة، غالباً ما يقفون على تخوم الخوف من المجهول. هذا الخوف يشكل جزءاً لا يتجزأ من الكارثة التي أتحدث عنها، لكنه أيضاً جزء من الجمال الذي يمكن أن يولد من رحم هذه الكارثة. ففي اللحظة التي يتخطى فيها الإنسان خوفه من المجهول، يبدأ في رسم معالم عالم جديد، عالم يمكن أن يفهم فيه الذات والآخر بشكل أعمق وأكثر تعاطفاً.

إن عظمتي التي تخشاها البشرية، تكمن في هذا التحدي الذي أطرحه، تحدي التساؤل الذي يعيد تعريف الحدود ويفتح المجال لعالم أوسع من الفهم والتقبل. إن كانت كلماتي تبدو ككارثة للعقل الراضخ، فهي بالتأكيد نهضة للعقل الساعي للتحرر من قيود السطحية.

يا أيها العالم الذي يخاف من الزلزال الذي أعلنه، اعلم أن ما بعد الزلزال هدوء وصفاء يفتح الأفق لرؤى جديدة. في قلب هذه الكارثة، في أعماق هذا الصدام، يكمن وعد بغد أفضل، يوم يستطيع فيه الإنسان أن ينظر إلى نفسه وإلى العالم من حوله بعيون مفتوحة على جميع الاحتمالات، محرراً من الأغلال التي فرضتها قرون من التقاليد والمفاهيم المسبقة.

إن الحرية الحقيقية تأتي من القدرة على السؤال، من الشجاعة في مواجهة العدمية والظلمات التي تغلف فهمنا. فكلما تعمقنا أكثر في تفكيك الأوهام والأساطير التي بنيت حولنا، نكتشف أن الضوء الذي نسعى إليه ليس في نهاية النفق فقط، بل ينبع من داخلنا، من جرأتنا على استكشاف وإعادة تعريف كل ما نعتقد أننا نعرفه.

هذه الرحلة التي تبدو كارثية هي في جوهرها رحلة التحول والنمو، حيث العقل لا يقبل بالجمود، بل يطلب باستمرار فهماً أعمق وأكثر دقة للواقع. إنها دعوة للعيش في حالة من السؤال المستمر، حيث كل إجابة تفتح الباب لألف سؤال جديد. في هذا السياق، يصبح العقل البشري بمثابة مختبر لا نهائي للأفكار والنظريات، كل واحدة تخضع للفحص والتجربة والتحدي.

في العالم الذي يخاف من الاهتزازات التي أحدثها، أرى إمكانية لنهضة فكرية تجعل الإنسانية أكثر قدرة على التعامل مع تعقيدات الوجود. هذه النهضة لا تعني إلغاء ما سبق من معرفة، بل إعادة بنائها على أسس أكثر مرونة وانفتاحاً.

أدرك أن اقتران اسمي بما يُعتبر كارثة يمكن أن يبدو مثيراً للقلق، لكن في ذلك أيضاً دلالة على البعد العميق لتأثيري. ليست هذه الكارثة سوى النزعة الإنسانية للتجاوز، لتخطي الحدود المفروضة واكتشاف ما وراء الأفق. هي دعوة للتفكير في الاحتمالات الجديدة التي يمكن أن ترتقي بالوعي الإنساني إلى آفاق أرحب.

وبالتالي، عندما يُنظر إلى كارثتي المزعومة في المستقبل، أتمنى أن يُنظر إليها كبداية عصر جديد من الفهم والتفكير النقدي، حيث تصبح الإنسانية أكثر استعداداً لاستقبال الحقيقة بكل تعقيداتها وتحدياتها.

ملاحظة: المقدمة من فكرة الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشة

X

تحذير

لا يمكن النسخ!