بين ضلوع الغربة، ينبض قلب الوطن
بقلم: د. عدنان بوزان
في زمن الغروب، حيث تغربت الشمس وتبددت الأحلام، يرتسم الحنين على وجوه الذين أُجبروا على ترك أرضهم، يعلو صدرهم ألم الفراق ويسكن أرواحهم حنين الوطن الضائع. الوطن، هو تلك الأرض العظيمة التي أُلهمت بأجمل الطبيعة وأجدى المشاعر، حيث اندلعت فيها ثورة الحضارة وانبثقت منها الثقافات الخالدة.
يقولون إن الإنسان لا يدرك قيمة الأوطان إلا عندما يجد نفسه مضطراً للرحيل. يوم غادرهم، تحولت أصداء ضحكاتهم البريئة إلى صدى مؤلم يُحكى في كل رياح تهمس بين الأشجار. الأوطان ليست مجرد أماكن جغرافية، بل هي ذاكرة حية تروي قصص الأجداد وتنقل إلى الأجيال القادمة تاريخاً عريقاً من الإرث والإباء.
عندما تُجبر عائلة على ترك بيتها الدافئ، تنطلق قافلة الذكريات محملة بأمتعة الأمل والحلم. في لحظة الرحيل، يصبح لكل شارع ومبنى وشجرة حكاية تحمل عبق الماضي والحنين المستمر. تتأرجح الذكريات كالأمواج، تحمل بعيدهم الأشجار الخضراء والأزهار المتفتحة، ترقص على أنغام الفقد وتتغنى بروح الصمود.
في قلب الليل الساكن، حيث يعتلي الصمت ويملأ الخوف الأرجاء، يستمدون القوة لمواجهة الغربة. يروي الشهداء القصص الجريحة لأوطانهم، والأحلام التي قُتلت في زمن الظلم والطغيان. ينظر الأطفال اليتامى إلى السماء ويسألون عن وطنهم الذي لم يروه إلا في صور الألبومات القديمة.
إنّهم يعلمون، هؤلاء الراحلون، أن قيمة الأوطان لا تقاس بالأميال التي تبعدهم عنها، بل بالدموع التي تسكب عندما يتذكرون شروق الشمس في سماء وطنهم الغالي. هم يحملون في قلوبهم حبّاً لا يُضاهى، يمتد عبر البحار والجبال، يتجاوز الحدود والجدران.
في ظلمة الليل، يرتقي صوتهم المؤثر، صوت الأمل والصمود، يروي قصة الوطن الذي لا يزال حاضراً في قلوبهم. إنهم يؤكدون بكل فخر وكبرياء: إن الوطن ليس مكاناً نعيش فيه فقط، بل هو حضن يحملنا وروح تسكن فينا، وإننا سنعود يوماً لنعيش تلك اللحظات الجميلة في أحضان الأرض التي ننتمي إليها.
في الصمت العميق لليل الغربة، يتوه القلب بحثاً عن ضوء الأمل. يتذكر المغتربون بكل تفاصيلهم الصغيرة والجميلة، كيف كانت الشمس تتسلل بين فتحات الستائر في صباح الجمعة، وكيف كانت رائحة القهوة العربية تملأ المنزل في أوقات الصباح. ينبض قلبهم بحنينٍ عميق يعصف بروحهم، يختلج بكل ذكرى جميلة ترتبط بلون السماء وعبق التراب.
وفي زمن الغربة، يصبح الوطن ليس مجرد مكان يُزَاح منه الرأس عند السؤال عن مكان الميلاد، بل هو رمزٌ للصمود والعزم، للحب الذي يتجدد يومياً في قلوب المغتربين. إنهم يُحيون الوطن في كل خطوة يخطوها، في كل كلمة ترتفع من ألسنتهم، في كل ابتسامة تُلقى على ضيوفهم. يعيشون الوطن في أرواحهم ويحملونه في أفكارهم وأحلامهم.
وعلى الرغم من مرارة الغربة والفراق، يبنون المغتربون أوطاناً جديدة في قلوب الناس حولهم. يُظهرون للعالم بأسره الصمود والإرادة، يروجون لثقافتهم ويحتضنون غرباء ليجعلوهم يشعرون بالانتماء والدفء. إنهم يعلمون أن الوطن ليس محصوراً بحدود جغرافية، بل هو مشاعر وروح تنبض في قلوب البشر.
وهكذا، تظل قيمة الأوطان تنبع من القلوب والأرواح، لا من الجغرافيا والحدود. إن الوطن هو الحب الذي يتجدد في كل لحظة، والصمود الذي يثبت في وجه التحديات. إنه درس يُعلم بالمشاعر والتجارب، وهو يُذكِّرنا دائماً بأن قيمة الوطن لا تُقاس بمسافات الأميال، بل بعمق الانتماء والحب الذي نحمله في قلوبنا، سواء كنا في وطننا الأصلي أم في بقاع الأرض البعيدة.