حين يتجاوز الحب الكبرياء: عشق الروح للروح
بقلم: د. عدنان بوزان
في أعماق قلب كل منا، تتربع مشاعر جياشة مليئة بالأسرار، تخفي وراء ستائر الكبرياء ألواناً من الحنين، وظلالاً من العشق الصامت. الكبرياء، ذلك الحصن المنيع الذي يحيط بالنفس، يرفعها عالياً فوق أمواج الضعف والتردد، يمنع اللسان من نطق استفسارات القلب عن المحبوب، يكبل الأيدي عن مدّ الجسور نحو من نهوى.
لكن ألا يعجز هذا الكبرياء أحياناً أمام جبروت الشوق؟ ألا ينكسر هذا الجدار الصلب تحت وطأة الحاجة الملحّة لمعرفة أحوال الآخر، حتى وإن كان من بعيد؟ الشوق، تلك النار الهادئة التي تتقد في صميم الروح، تذيب تلك الجليدة التي يصنعها الكبرياء، وتجبر العين على رصد أدق تفاصيل الحبيب، تجول بنا بين ثنايا حياته دون أن يشعر.
إنها معركة طاحنة بين عظمة الكبرياء ولهفة الشوق، بين رغبة في الحفاظ على الصورة الذاتية، وبين احتياج يتصاعد لملامسة الروح روحاً تؤانسها. فالحب، عندما يتعلق بالروح، لا يعترف بالحدود ولا القيود، يتجاوز الظروف والأزمان، يهمس بأصدق المعاني التي لا تتلوث بزيف العالم الخارجي.
لذلك، وإن بدا المحبوب غارقاً في طمأنينة البعد، فإن الروح المحبة تظل ترقب، تتتبع أنفاسه المتباعدة، تحلق حوله كفراشة تدور حول ضوء يتلألأ في الأفق البعيد. وفي هذا الرقيب الخفي، تتجلى حقيقة الحب النابع من الروح؛ حب لا يطلب الظهور بل يكتفي بالوجود، حب يسمو فوق مطامع الأنا ويهب نفسه بصمت وإخلاص.
إن عشق الروح للروح، ليس إلا رقصة محبوكة بخيوط من نور، تلك التي توحد القلوب وتسمو بها إلى آفاق أرحب من مجرد الحب؛ آفاق تصل إلى التفاهم الأزلي والانسجام الأبدي. هذا هو الحب في أسمى صوره، الذي يكون فيه البعيد قريباً، والصامت ناطقاً، والغائب حاضراً في كل لحظة من لحظات الوجود.
هكذا هو الحب العميق، الذي يتجاوز الكلمات والأفعال، ليستقر في همسات القلوب ونظرات العيون التي تحكي قصصاً لا تنتهي. يحتمل الكبرياء ويعلو عليه، لأنه يملك القدرة على إذابة كل ما هو جليدي وصلب فينا. الشوق في مثل هذه الحالات، لا يصبح مجرد إحساس يزول بلقاء أو يتلاشى بحديث، بل يصير جزءاً لا يتجزأ من النفس يستمر بالنمو والتفتح، كزهرة في ربيع دائم.
فمن يعشق بروحه لا يحتاج لأن يسأل كثيراً، فأعينهم تلاقي بعضها عبر الأزمان والمسافات، وتعبر عن أعمق المعاني دون حاجة للكلام. ومن هنا تأتي سحرية العلاقات التي تبنى على الروح والتفاهم العميق، حيث لا حاجة للتوضيح أو التبرير، لأن كل شيء مفهوم بين الطرفين في صمت مطبق ونظرات تحمل الألف معنى ومعنى.
الكبرياء قد يجعلك تبتعد خطوة، لكن الشوق الذي ينبع من الروح سيجذبك خطوتين نحو من تحب. وفي هذا السحب والجذب، يبقى الحب الحقيقي متألقاً، ينير دروبنا في أحلك الأوقات، يمنحنا القوة لنظل أوفياء لعواطفنا العميقة، حتى وإن كانت مستورة خلف قناع الكبرياء.
إن عشق الروح للروح يظل النبراس الذي يضيء لنا متاهات الحياة، يرشدنا إلى مرسى السكينة والراحة، حيث القلوب متحدة والأرواح متآلفة، وحيث الحب لا يعرف الزوال أو النهاية. ففي هذا الحب، نجد أنفسنا، ونعيد اكتشاف عمق إنسانيتنا بأجمل صورها وأرقى تجلياتها.