الوفاء: رسوخ القيم وأنوار الذكريات في رحلة الحياة

بقلم: د. عدنان بوزان

في سكون الليل العميق، حيث تتهادى الأفكار كأوراق الخريف الهاربة من عناق الأغصان، أجد نفسي أفكر في معنى الوفاء، تلك الصفة الراسخة كجذور السنديان في أعماق الأرض الصلبة. الوفاء، كلمة صغيرة في حجمها، عظيمة في معناها، تحمل بين طياتها أسمى معاني الإخلاص والعطاء.

الوفاء هو ذلك النور الذي يضيء درب الحياة حين تحل الظلمات، والدفء الذي يبعث الأمان في قلوبنا حين تقسو الأيام. هو البصمة التي تتركها الأيدي الحانية على جدران قلوبنا، فلا تمحى بمرور الأيام أو تغير الظروف. الوفاء هو ذلك العهد الذي لا ينكث، والعطاء الذي لا ينتظر مقابلاً.

أتذكر هنا كلمات الشاعر حين قال: "إن الوفاء روح لا تفارق جسد الذكريات"، لأن الوفاء هو ما يجعل الذكريات الطيبة نبضاً يتردد في كل خفقة من خفقات قلوبنا، وما يجعل الود لا يذبل، وإن طالت المسافات وتقادمت الأزمان.

كم هو جميل أن يعيش الإنسان محاطاً بأناس وفيّين، يحفظون العهد، ولا يغيّرون ولا يبدّلون، حتى وإن تقلّبت الحياة بما رحبت وضاقت. الوفاء هو ذلك السراج الذي يستضيء به المرء في ليل فقد الأحباء والأصدقاء، فلا يشعر بالوحدة أو الضياع.

ليس الوفاء مجرد شعور عابر، بل هو قرار، قرار أن نكون أوفياء لمن أحبونا وآمنوا بنا ووقفوا إلى جانبنا في السراء والضراء. هو تلك الشجرة التي تثمر مودة وتضحية وإخلاصاً، تسقيها أمطار الأيام الصعبة وشمس الأيام الجميلة.

فلنعهد إلى أنفسنا أن نكون كالجبال الراسخة في الوفاء، لا تهزها رياح الصعاب ولا تغرقها أمواج المتاعب. ولنكن كالنجوم التي تضيء سماء العالم بنورها، نور الوفاء الذي لا يخبو مهما طال الزمن.

يبقى الوفاء الركيزة التي تُبنى عليها القيم النبيلة، وهو ما يجعل الإنسانية جميلة وحياتنا معنية. وفي قلب كل وفاء تتوهج قصص العطاء والأمانة، تبني جسوراً لا تهدمها عواصف الغدر ولا يمحوها زحف النسيان.

إنه الوفاء الذي يرسم على وجوه الزمان ملامح الجمال والاستقرار، ويحفر في تاريخ البشرية أروع الأمثلة على الصدق والثبات. وليس هناك أجمل من تلك العلاقات التي تزهر في ربيع الوفاء، حيث تتفتح أزهار الثقة وتتعانق أغصان الحب في سماء الود الصافية.

يظل الوفاء ذلك النبع الذي يروي ظمأ الروح إلى الارتباط الإنساني العميق، ذلك الرابط الذي يتخطى حدود الألفاظ والمعاني، ليستقر في الأعماق كحقيقة لا تقبل الجدل. فمع كل فجر جديد، ينبغي أن نعيد التأكيد على عهودنا ووعودنا، نجددها بكل إخلاص، ننقيها من شوائب الشك والتردد.

الوفاء، برغم بساطته، يمتلك قوة تحولية تعيد تشكيل العلاقات الإنسانية، تجعلها أكثر متانة وعمقاً. إنه السر الخفي وراء العلاقات الطويلة، سواء كانت في إطار الصداقة أو الحب أو حتى الولاء المهني والوطني.

لذا، دعونا نحتفي بالوفاء ونعتبره منهجاً في الحياة، مساراً نختاره بإرادتنا لنبني به جسوراً تصل بين قلوبنا وأرواحنا، جسوراً لا تهدمها رياح المصالح الزائلة أو موجات التقلبات العارضة. دعونا نحيا بوفاء لنحيا بكرامة، محتفظين بجوهرنا الإنساني النبيل، الذي هو أساس كل فضيلة ومبدأ.

أضف تعليق


كود امني
تحديث

X

تحذير

لا يمكن النسخ!