همسات الوداع: حكايات القلب بين اللقاء والفراق
بقلم: د. عدنان بوزان
عندما تهبّ همسات الوداع في فضاء القلب، تنساب كنسيم الفجر البارد على بحيرة ساكنة، تعكّر صفوها بتردد خفيف لكنه عميق، فتهتزّ تلك المياه الهادئة، لتترك أثراً لا يمحوه الزمن. إن الوداع، بطبيعته المرهفة، يتسلل إلينا في لحظات لا نحسب لها حساباً، كضيف غير مرغوب فيه، يأتي محمّلاً بحقيبة من الحزن والحنين، ليجلس بيننا ويحتل قلوبنا، تاركاً لنا خياراً واحداً فقط، وهو التعايش معه.
عندما يحين وقت الوداع، تتحدث العيون بصمت، تجول فيها آلاف الكلمات دون أن تُنطق، فتشعر وكأن الكون بأسره قد توقف عن الدوران لوهلة، وأن الزمن قرر أن يأخذ استراحة قصيرة. إنها تلك اللحظات التي تتجلى فيها مشاعر الإنسان بأبهى صورها، حيث تتصارع فيه القوة والضعف، والفرح والحزن، والتفاؤل واليأس. ورغم أن الوداع يأتي على هيئة صوت خافت، إلا أنه يترك في القلب صدى يتردد في كل ركن، ولا يغادر إلا ببطء كئيب.
في تلك اللحظة التي تقف فيها لتودّع شخصاً عزيزاً، تشعر بأن كل كلمة تُقال هي محاولة فاشلة للتعبير عما يختلج في قلبك. تختنق الكلمات في الحلق، وتتشابك العبارات بين اللسان والشفاه، وتظل المشاعر حبيسة الأعماق، معلّقة بين الرغبة في البوح والخوف من الوداع. تحاول أن تتمسك بشيء ما، أي شيء، ليمنع هذا اللقاء من أن ينتهي، لكنك تدرك في قرارة نفسك أن النهاية حتمية، وأن كل لحظة إضافية هي مجرد إضافة إلى عذوبة الفراق.
همسات الوداع تأتي أحياناً مغلفة بنكهة الذكريات، تعيد إلى الأذهان لحظات قضيناها مع من نودّع، فتجعل القلب يزفر كل أنفاس الحنين، وتنهمر العيون دموعاً، بعضها ساخن يلسع الوجنتين، وبعضها بارد يغرق الروح. تلك الذكريات تتأرجح بين الابتسامات والدموع، كأوراق خريفية تتمايل مع الرياح، لا تعلم إلى أين ستقودها، لكنها تعلم أنها في النهاية ستسقط، لتترك خلفها فراغاً لن يملأه شيء.
ومع ذلك، فإن الوداع ليس دائماً النهاية؛ أحياناً يكون بدايةً لشيء جديد، كصفحة بيضاء تنتظر أن تُملأ بقصة أخرى، بمشاعر أخرى. قد يكون وداعنا لمن نحب هو الخطوة الأولى نحو اكتشاف أبعاد جديدة في ذواتنا، أو نحو التكيف مع واقع جديد لم نكن نتوقعه. فالوداع معلم قاسٍ، لكنه حكيم، يلقننا درساً في الصبر، وفي قبول التغيرات التي تطرأ على حياتنا.
في نهاية المطاف، تظل همسات الوداع جزءاً من دورة الحياة، كتلك الرياح التي تمر بين أغصان الأشجار، تحركها برفق ثم تغادر، لتتركها في سكون محاط بهدوء الليل. قد يكون الوداع مؤلماً، لكنه أيضاً يفتح لنا نافذة نطل منها على عوالم جديدة، ونستشعر من خلالها جمال اللحظات التي عشناها، ونتعلم كيف نقدر قيمة الأشياء قبل أن ترحل.
تلك الهمسات ليست سوى تذكير لنا بأن الحياة مليئة باللقاءات والوداعات، وأن كل وداع هو فرصة للتأمل في عمق العلاقات التي نكونها، وفي أهمية كل لحظة نعيشها مع من نحب. في النهاية، نبقى نحن، وتبقى ذكرياتنا، وتبقى همسات الوداع، تلازمنا كظلٍ هادئ، يحكي لنا عن ماضٍ عشناه، وعن مستقبلٍ ننتظره بشوق وحنين.