في انتظار العدم: إعلان موت الله والهروب من الحياة
بقلم: د. عدنان بوزان
في زاوية معتمة من عالمي، جلست وحيداً، مترقباً النهاية التي باتت أقرب إليّ من أي وقت مضى. هنا، حيث لا يُسمع سوى دقات قلبي الخافتة، أصبح الوقت محايداً تماماً، ينساب بلا هدف، بلا غاية. كل دقيقة تمضي، أشعر وكأنني أذوب في الفراغ المحيط بي، ذاك الفراغ الذي يلتهمني شيئاً فشيئاً. في هذا السكون الثقيل، أعلنت موت الله، تلك الفكرة التي كانت يوماً ما تملأ روحي بالإيمان واليقين، تعززني في مواجهة الحياة. ولكن أين هو الله الآن؟ أين هو ذاك الوجود الذي كان يضيء لي الطريق؟ أبحث عنه في السماء، في الأرض، في وجوه الناس، فلا أجد إلا الفراغ، فراغاً يتسع ويتسع، حتى يغمر كل شيء.
لقد باتت الحياة أشبه بسجنٍ لا فرار منه، جدرانه عالية شاهقة، وسقفه منخفض يضغط على أنفاسي. وبين هذه الجدران القاسية، أتنفس ببطء كأنني أختنق، وكأن الهواء نفسه أصبح عدواً لي، يخنقني بدلاً من أن يمنحني الحياة. ما المعنى من هذه الحياة بعد أن اختفى الله من عالمي؟ أو ربما لم يكن موجوداً أصلاً، ربما كان مجرد وهمٍ جميلٍ صنعته لأهرب من مواجهة الحقيقة القاسية. هذه الحقيقة التي باتت الآن أمامي، عارية من أي معنى أو غاية.
في انتظار موتي، أشعر بالانفصال عن كل ما كان يربطني بهذه الحياة. تلك الأحلام التي كانت يوماً ما تملأني بالأمل، تلك الرغبات التي كانت تدفعني نحو الأمام، كل شيء بات بلا معنى، كأنني أشاهد فيلماً تافهاً، تفاصيله مكررة ومملة، وأنا لا أملك القدرة على إيقافه أو الخروج منه. كل محاولة لفهم هذه الحياة تنتهي بالفشل، وكل محاولة للبحث عن الله، ذاك الإله الذي كنت أراه في كل شيء، تتلاشى في صمت العدم.
أتذكر كيف كنت أبحث عن الله في كل لحظة، كنت أراه في الزهور المتفتحة، في ضحكات الأطفال البريئة، في همسات الرياح اللطيفة. كنت أراه في العيون التي تلمع بالأمل، وفي النجوم التي تضيء سماء الليل. كنت أراه في كل تفصيلة من تفاصيل الحياة، وكان هذا الإيمان هو ما يبقيني حياً، ما يعطيني القوة لأستمر. ولكن الآن، كل تلك الصور تلاشت، تحولت إلى أطياف باهتة لا تحمل سوى ذكرى ألمٍ قديم. لم يعد الله هنا، لم يعد حاضراً في عالمي، ولم يبقَ سوى الظلام، ظلامٌ عميقٌ لا أرى فيه سوى انعكاس ضعفي وعجزي.
أين هو الله الذي كنت أؤمن به؟ أين هو ذاك الإله الذي كان يشع نوراً في قلبي؟ هل كان الله مجرد انعكاس لضعفي؟ هل كنت أحتاج للتعلق بشيء أكبر من الحياة، شيء يمنحني القوة والمعنى؟ الآن، وأنا أعيش هذه اللحظات الأخيرة، أدرك أن الله قد مات، أو ربما لم يكن موجوداً أصلاً، وأنني كنت أعيش في وهمٍ كبير.
اليوم، وأنا أنتظر موتي، أدرك أن الموت هو الجواب الوحيد المتبقي لي. هو المفر الأخير من هذا العالم الذي لم يعد يحتملني، وأنا لم أعد أحتمله. الحياة باتت مجرد انتظارٍ للنهاية، لحظة أخيرة أراها الآن كخلاصٍ من عذابي الداخلي. لقد انتهت كل الأسئلة، وانطفأت كل الأجوبة، ولم يبقَ سوى الانتظار، انتظار الموت الذي سيأتي لينهي كل شيء.
أغمض عينيّ لأجد نفسي في مواجهة الفراغ، ذاك الفراغ الذي لم يملأه أحد، لا الله ولا الإنسان. كل شيء صار بلا معنى، حتى الموت نفسه ليس أكثر من محطة أخيرة في رحلة العبث. ولكن، رغم كل هذا الظلام، أجد في الموت راحة، راحة من الأسئلة التي لا جواب لها، من الألم الذي لا نهاية له. لم يعد يهمني ما سيأتي بعد الموت، لم يعد يهمني ما إذا كان هناك شيء آخر أم لا. لقد تعبت من الحياة، تعبت من البحث عن معنى لم أجد له أثراً.
في هذا الصمت العميق، وأنا أنتظر النهاية، أعلن موت الله، وأعلن موتي الوشيك. فالحياة لم تعد تحمل لي شيئاً، ولم أعد أبحث عن الله، ولم أعد أبحث عن إجابات. فقط، أنتظر الموت، لأنني أدركت أخيراً أن الموت هو الخلاص الوحيد من هذه الحياة التي فقدت كل معنى، وأنه المخرج الوحيد من هذا الوجود الذي لم يعد لي مكان فيه.