أوراق الحنين: حكايات القلب العالقة في ذاكرة الخريف
بقلم: د. عدنان بوزان
عندما يبدأ الخريف، تبدأ أوراق الشجر في رحلتها الأخيرة. تتلون بألوان الحنين؛ أصفر يذكرني بضحكات الطفولة التي كانت تملأ أرجاء الحي القديم، وبرتقالي يعكس غروب الشمس التي كنا نودعها مع نهاية كل يوم مدرسي، وأحمر كأنفاس الحب الأولى التي كانت تدفئ ليالي الشتاء الطويلة. كل ورقة تسقط من الغصن، تحمل بين طياتها ذكرى عابرة، تنقش حروفها على صفحات القلب.
كم هو غريب ذلك الشعور الذي ينتابني عندما أراقب تلك الأوراق وهي تتراقص في الهواء، وكأنها تنشد أنشودة الوداع الأخير. هي ليست مجرد أوراق، بل قصص لم تُكمل فصولها، أحلام لم ترَ النور، وأحزان تراكمت مع مرور السنين. هي أوراق الحنين، تسقط لتعيدني إلى ماضٍ بعيد، إلى زمن كان فيه كل شيء بسيطاً ونقياً.
في يوم من الأيام، كانت تلك الأوراق خضراء، مليئة بالحياة، تشهد على فصولٍ من الحب والعطاء. كانت تتعلق بالغصن بقوة، تُقاتل الرياح، وتحتضن القطرات الأولى من المطر. ولكن مع مرور الوقت، وبدء الخريف، تضعف قبضة الأوراق على الحياة. تودع الغصن بحنان، وكأنها تدرك أن دورها قد انتهى، وأنها ستترك مكانها لورقة جديدة في الربيع القادم.
تلك الأوراق تحمل في سقوطها عبراً ودروساً. تعلمنا أن الحياة عبارة عن فصول متعاقبة، كل فصل يأتي ويذهب ليترك وراءه أثراً لا يُمحى. تعلمنا أن الحنين جزء لا يتجزأ من وجودنا، يحملنا إلى أماكن وأزمنة قد نسيناها، أو ربما حاولنا نسيانها.
أوراق الحنين ليست فقط مجرد ذكرى، بل هي جسر يصل بين الماضي والحاضر. تجعلنا نفكر في ما قد فقدناه، وفي ما تبقى لنا. تجعلنا ندرك أن الزمن قد يأخذ منا أشياءً كثيرة، لكنه في المقابل يمنحنا قدرة على التأمل، وعلى استعادة الذكريات التي صنعت منا ما نحن عليه اليوم.
عندما تتساقط الأوراق، تأخذ معها جزءاً من روحي، لكنها تترك لي الدفء الذي يملأني عندما أستعيد ذكرياتي. تجعلني أبتسم بحزن، وتُذكرني بأن كل شيء في الحياة زائل، لكن الحنين يبقى. هو الزائر الدائم الذي لا يطرق الباب قبل أن يدخل، يجلس في زاوية القلب، ويفتح صندوق الذكريات، يعيد ترتيب الصور، ويعرضها أمام عينيك، واحدة تلو الأخرى.
الحنين هو تلك الورقة التي تُكتب عليها قصصنا. هو الكتاب الذي لا ينتهي، لا يُطوى صفحاته حتى لو حاولنا ذلك. أوراق الحنين تسقط لتعلمنا أن كل شيء في هذه الحياة له نهاية، وأن علينا أن نحتضن تلك النهاية بكل ما تحمله من مشاعر، سواء كانت فرحاً أو حزناً.
عندما تتساقط آخر ورقة، ندرك أن الحياة تستمر، وأن الربيع سيأتي مجدداً ليملأ الأغصان بأوراق جديدة. لكن تلك الأوراق الجديدة ستحمل معها ذكريات جديدة، وأوراق الحنين ستظل محفورة في أعماق قلوبنا، تروي لنا حكاية أيام خلت، ونبضات قلوب كانت تملأ الحياة بالمعاني.
وعندما يأتي الربيع، تبدأ الأوراق الجديدة في الظهور، تنمو ببطء لتملأ الفراغ الذي تركته أوراق الحنين. تلك الأوراق تحمل معها أملاً متجدداً، وإشراقةً جديدةً للعالم. ولكن رغم جمالها، يبقى في القلب فراغ لا يملؤه سوى تلك الذكريات القديمة، تلك الأوراق التي ذبلت وسقطت مع الرياح. إنها ذكريات محفورة بعمق، لا تتلاشى مع مرور الوقت، بل تزيدها الأيام بريقاً وألقاً، كأنها تتحدى الزمن لتبقى حية في نفوسنا.
أوراق الحنين تعيدني إلى لحظات كانت فيها الحياة أكثر بساطة. إلى تلك الأيام التي كنا نجلس فيها تحت شجرة كبيرة في حديقة البيت القديم، نراقب السحب وهي تتغير ألوانها مع غروب الشمس. كنا نمسك بأوراق الخريف المتساقطة، نضعها بين صفحات الكتب، وكأننا نحاول أن نحفظ فيها جزءاً من تلك الأيام، أن نخزن الحنين في أوراق منسية بين طيات الكتب.
كل ورقة كانت تحمل رائحة الماضي، أحياناً كانت تحمل معها صوت ضحكة، أو همسة حب، أو حتى دمعة هادئة. وعندما نفتح تلك الكتب من جديد، بعد سنوات طويلة، نجد أوراق الحنين قد تغير لونها، لكنها لم تفقد بريقها. تظل تحمل بين طياتها ذلك الشعور الغامض الذي يعيدنا إلى ما كنّا، إلى ما فقدناه، وإلى ما لم نعد نستطيع استعادته.
لكن أوراق الحنين ليست مجرد رموز للحزن، بل هي دليل على أننا عشناه ومررنا بتجارب صقلت أرواحنا. تلك الأوراق تعيدنا إلى أنفسنا، تذكرنا بما فقدناه وبما اكتسبناه، تذكرنا بأن الحياة رحلة متواصلة، وأن كل ورقة تسقط هي خطوة نحو الأمام، حتى وإن كانت تلك الخطوة مؤلمة.
أحياناً، في لحظات الوحدة، أجد نفسي جالساً أمام نافذة مفتوحة، أراقب الأشجار، وأنتظر سقوط ورقة جديدة. ليس لأنني أرغب في الفقد، بل لأنني أبحث عن تلك اللحظة التي يمكن فيها للحنين أن يزورني من جديد، أن يأخذني في رحلة قصيرة إلى الماضي. تلك اللحظات تجعلني أدرك أن الحياة ليست مجرد تراكم للأيام، بل هي سلسلة من الذكريات المتشابكة، منها ما يفرحنا ومنها ما يؤلمنا، لكنها جميعاً تشكل نسيجاً غنياً ومتعدد الألوان لوجودنا.
وفي النهاية، عندما يصبح الخريف مجرد ذكرى، ويحل الشتاء ببرده وصمته، تظل أوراق الحنين محفوظة في ذاكرتنا. نحن نعلم أنها ستظل هناك، في مكان ما داخلنا، تنتظر اللحظة المناسبة لتعود، لتُذكرنا بأن كل شيء في الحياة، مهما كان عابراً، يترك أثراً لا يمحى. ونحن، مع مرور الزمن، نتعلم أن نحتضن تلك الأوراق، وأن نقدر ما قدمته لنا من دروس وحكايات، لأن الحنين هو ما يبقى عندما يذهب كل شيء آخر.