نبضات الانتظار
بقلم: د. عدنان بوزان
في زوايا الليل الهادئ، يجلس قلبٌ متعب، مُثقلٌ بأحمال الاشتياق، يقتات على ذكرياتٍ باتت تتلاشى كالضباب مع مرور الأيام. كل نبضة فيه تحمل همّاً، وكل خفقة تختزن ألم الفراق الذي لا يرحم. هو قلبٌ لم يعد يعرف الراحة، فقد استُنزِف حتى النخاع، يسير على خيطٍ رفيعٍ من الأمل، يتشبث بحلمٍ قديمٍ بأن اللقاء سيأتي، مهما طال الانتظار.
هذا القلب يضج بالحنين، حنينٌ يشبه نغمةً قديمةً تعيدك إلى زمنٍ بعيد، حيث كانت الحياة أبهى، والأيام أكثر دفئاً. تتراكم المشاعر في زواياه، تتزاحم فيه الذكريات كأمواجٍ تتلاطم على شواطئ الروح، تملأه بالشوق الذي لا يعرف الهدوء. هو اشتياقٌ لا يهدأ، كأنه ريحٌ لا تهب إلا لتحمل معها رماد الأحلام التي احترقت في لحظات الانتظار الطويلة.
الانتظار، ذلك الشعور المرير الذي يحاصر هذا القلب من كل جانب، يطيل الليالي ويجعل الساعات تجر أذيالها بثقلٍ لا يُحتمل. في كل لحظةٍ تمر به، يشعر وكأن الزمن ينسحب من تحته، تاركاً إياه معلقاً بين ماضٍ يؤلمه ومستقبلٍ مجهول، لا يحمل له سوى المزيد من الانتظار. في هذا السكون القاتل، تشتعل في قلبه نيران الشوق، تُحيله إلى رمادٍ بطيء الاحتراق، لا يجد سبيلاً للتخفيف سوى في استدعاء الصور القديمة، التي تُلهب جراحه لكنها تظل الأنس الوحيد له في هذا العذاب.
وكم من المرات حاول هذا القلب أن يتجاوز الاشتياق، أن يهرب من سطوته، لكنه دائماً ما يعود إليه مهزوماً، مقيداً بسلاسل الانتظار التي لا تنفك تضيق عليه. كل محاولةٍ للهروب تتحطم على صخور الواقع القاسي، فالشوق ليس مجرد شعورٍ عابر، بل هو جذرٌ يتعمق في الروح، يمتد في كل جزءٍ منها، ويجعل من الانتظار قدراً محتوماً لا يمكن الفرار منه.
وها هو الليل يأتي من جديد، حاملاً معه ذاك الصمت الثقيل، فتبدأ الأحلام تنسج نفسها في ذهن هذا القلب المتعب. يرى في أحلامه عودة الأحبة، وعودة الأيام الجميلة، لكن ما إن يفتح عينيه حتى يجد نفسه وحيداً، محاطاً بجدران الانتظار الباردة. هذه الأحلام التي كانت تسرقه من واقعه باتت الآن تؤلمه، لأنها تذكره بما لن يعود، بما قد فُقد إلى الأبد.
في عمق هذا الانتظار، يكتشف هذا القلب شيئاً جديداً؛ يكتشف أن الاشتياق هو الوجه الآخر للحب، وأن الحب ليس مجرد فرحة اللقاء، بل هو أيضاً مرارة الفراق وعذابات الانتظار. يفهم أن الحب لا يكتمل إلا بهذه الأجزاء المتناقضة، التي تجعل منه شعوراً فريداً، يشد الروح إلى أعلى مراتب السعادة، وفي الوقت ذاته يسحبها إلى أعمق هاويات الحزن.
وفي النهاية، يدرك هذا القلب أن الانتظار جزءٌ من الرحلة، جزءٌ من قصةٍ لم تكتمل بعد، وأن عليه أن يستمر، مهما طال الانتظار، ومهما كان مؤلماً. ففي نهاية كل انتظار، هناك لقاء، وإن لم يكن اللقاء بالضرورة مع من نشتاق إليه، فقد يكون اللقاء مع السلام الداخلي، مع القبول بأن الحياة لا تعطينا دائماً ما نريد، لكنها تعطينا ما نحتاجه لننمو وندرك المعنى الحقيقي للحب.
يستمر هذا القلب في نبضه، يتعلم كيف يعيش مع الاشتياق، وكيف يجعل من الانتظار رفيقاً لا عدواً، وكيف يرى في كل لحظةٍ تمر فرصةً جديدةً للتعلم والنمو. هو قلبٌ تعلم أن الحب ليس فقط في اللحظات الجميلة، بل في تلك اللحظات الصعبة التي تُظهر لنا قوتنا وصبرنا، وتعلمنا أن الحياة، بكل ما فيها من ألمٍ وسعادة، تستحق أن تُعاش بكل تفاصيلها، وأن الحب، مهما كان ثمنه، يستحق أن يُنتظر.