قلب مغلف بالشوق
بقلم: د. عدنان بوزان
في زحمة الأيام، حيث تتراكم اللحظات وتتداخل، ينبض في صدره قلب أثقلته الآهات وأرهقه الاشتياق. ذلك القلب الذي كاد يتفجر من شدة الحنين، حنين يعصف بكيانه كالريح العاتية التي لا تهدأ ولا تستكين. كل نبضة فيه تحمل همسات شوق مدفون في طيات الزمن، ينبعث كصدى من بعيد، يذكره بتلك الأوقات التي كان فيها الحب ينبض بالحياة، حينما كان اللقاء يحمل معه دفء العالم كله.
لكن الآن، صار الحب ذكرى بعيدة، كضوء خافت في نهاية نفق طويل مظلم. أصبح الاشتياق كغيمة ثقيلة تظلّل عليه، تمنع عنه نسمة الراحة، وتحجب عنه شمس الأمل. كيف يمكن لقلب أن يتحمل هذا العبء؟ أن يحمل داخله كل هذا الشوق دون أن يتصدع؟ كل ليلة، وهو يتوسد وسادته، يشعر وكأن العالم بأسره قد انطفأ، وبقي وحيداً في عتمة الذكريات.
لقد اشتاق إلى تلك العيون التي كانت تعكس بريق الحياة، اشتاق إلى الابتسامة التي كانت تحمل دفء الشمس في يوم شتائي بارد، اشتاق إلى اللمسة التي كانت تمسح عن جبينه تعب الأيام وتروي ظمأ روحه. لكنه الآن، وفي هذا العالم الذي يبدو فارغاً من دونها، لم يبقَ له سوى الاشتياق. الاشتياق الذي يكبر يوماً بعد يوم كوحش يلتهم ما تبقى من قوته وصبره، ويمتص ما تبقى من نور داخله.
في كل صباح، ومع أول خيط ضوء ينفذ من ستائر النافذة، يعاوده الأمل للحظة، يظن لوهلة أن الاشتياق قد خف قليلاً، لكن سرعان ما يعود بكل قوته، كما يعود البحر إلى الشاطئ في ليلة مدٍّ قوية. يظل قلبه يتوجع، ينتظر لحظة واحدة تجمعه بمن يحب، لحظة ترد إليه ما سرقته الأيام. لكن تلك اللحظة تبدو كسراب بعيد، كلما اقترب منه، ازداد بعداً.
وفي كل مساء، يغمره الحنين كما يغمر الليل كل شيء حوله، فتتراءى له الذكريات كلوحات تتأرجح أمام عينيه، بعضها واضح كأنه حدث بالأمس، وبعضها ضبابي كحلم عابر، لكنه يشعر بوجودها، وجودها الذي يجعله يتنهد كلما تذكرها. يتذكر تلك الأحاديث الطويلة تحت ضوء القمر، حين كان الليل يجمعهما كأنهما في عالم آخر، يتذكر كيف كانت ضحكاتهما تتناثر في الهواء كالعطر، وكيف كانت الحياة تبدو أجمل وهي تحتضن حباً لا يعرف سوى الصدق.
أصبح قلبه كهفاً من الاشتياق، تتردد فيه صرخات الحنين التي لا يسمعها أحد سواه، صرخات تملأ الفراغ حوله لكنها تبقى حبيسة داخله، تتصارع مع واقعه الذي يبدو فارغاً ومجرداً من اللون والنور. لقد أرهقه الاشتياق، أرهقه حتى لم يعد يميز بين الليل والنهار، كل الأوقات باتت تتشابه في غياب من يحب، غياب يحول أيامه إلى ليالٍ طويلة من الوحدة والانتظار.
لكن رغم كل هذا الألم، ورغم كل هذا الشوق، هناك في قلبه شعلة صغيرة، تكاد تخبو لكنها لا تنطفئ. شعلة تحمل الأمل بلقاء جديد، بلحظة تعيد إليه ما فقده، ربما يوماً ما، حين يلتقيان مجدداً، سيزول كل هذا الألم، وسيجد قلبه الراحة التي طالما انتظرها.
في نهاية المطاف، يبقى الاشتياق جزءاً من وجوده، جزءاً من ذاته، لكنه يعلم أن هذا القلب، رغم تعبه، قادر على الاستمرار، قادر على الانتظار، وقادر على الحب مجدداً، حتى لو كان هذا الحب مغلفاً بالحنين والذكريات. ففي النهاية، لا شيء يضاهي قوة القلب الذي ينبض بالشوق، قلب عاشق رغم كل شيء، رغم الغياب، ورغم الألم، قلب يظل ينبض بالأمل حتى في أحلك الليالي.