خريف الروح
بقلم: د. عدنان بوزان
في تلك اللحظات التي تكتسح فيها الغيوم السوداء سماء القلب، شعرت بأن شيئاً ما قد انطفأ بداخلي، وكأن الأمل الذي كان يضيء دروبي قد تلاشى، وسقطت أوراقه كأوراق الخريف التي تجف وتسقط واحدة تلو الأخرى. كان قلبي يوماً ما مشرقاً كربيع دائم، ينبض بالحياة، يتراقص على ألحان الطموح والأحلام. لكن الآن، تحول إلى شجرة عارية، تقف في وجه الرياح الباردة دون حماية، تنهار أوراقها تباعاً، تاركة خلفها غصوناً جافة وشاحبة.
لقد أصبحت أعيش خريفاً داخلياً، خريفاً مؤلماً ومحزناً، حيث كل ورقة سقطت كانت تحمل جزءاً من أحلامي وآمالي التي كنت أزرعها بعناية في تربة روحي. تلك الأوراق التي كنت أراها تكبر وتنمو مع كل خطوة أتقدم بها نحو المستقبل، أصبحت الآن مجرد ذكريات تتناثر حولي كأشلاء حلم تحطم تحت وطأة الواقع.
في هذا الخريف الداخلي، تختنق الأنفاس ويثقل الهواء بالحزن، فلا شيء يبدو كما كان. الشمس التي كانت تشرق في سماء روحي أصبحت باهتة، والشعاع الذي كان يخترق الظلام داخلي فقد بريقه. كل يوم يمضي وأنا أشعر بأن هذا الخريف لا نهاية له، بأنه ليس مجرد فصل عابر، بل حالة دائمة من الوداع المستمر لكل ما كان يبعث فيَّ الحياة.
إنه خريف لا يحمل معه جمال الألوان المتساقطة، بل يحمل لوناً واحداً، لون الرماد. كلما نظرت إلى نفسي، رأيت انعكاساً لهذا الرماد في عينيّ، وكأنني أعيش في مرآة تكرر لي ذات الصورة الباهتة، صورة الشجرة العارية التي كانت يوماً ما مليئة بالحياة. أستمع إلى صوت الرياح وهي تعصف حولي، كأنها تهمس لي بأن لا أمل في إعادة الأوراق إلى مكانها، وأن الشجرة التي فقدت أوراقها لن تزهر من جديد.
أحياناً، أغمض عيني وأحاول استحضار ذكريات الفصول الماضية. أسترجع تلك الأيام التي كان فيها الأمل يزهر في كل زاوية من زوايا حياتي، حيث كان المستقبل يبدو مشرقاً وكأن الطريق أمامي مفروش بالورود. لكن سرعان ما ينقلب كل شيء إلى سراب، فها هو الخريف يعود ليطغى على كل شيء، يعيدني إلى واقعي، واقع الشجرة الجافة، والسماء الغائمة، والبرد الذي يتسلل إلى أعماقي.
أشعر أنني محاصر في دائرة من الحزن، دائرة تتسع كلما حاولت الخروج منها. كلما حاولت أن أزرع بذرة جديدة في تربة قلبي، أجدها تذبل قبل أن تبدأ بالنمو. كل يومٍ يمر وأنا أراقب هذه الأوراق المتساقطة، أراقبها وهي تتجمع في زوايا نفسي، لتذكرني بأنني لم أعد كما كنت، بأن الحياة التي كنت أحلم بها أصبحت مجرد ذكرى بعيدة، وأن الخريف الذي أعيشه الآن ليس له نهاية في الأفق.
لكن، ومع كل هذا الألم، ثمة شيء في داخلي يرفض الاستسلام. ربما تكون هذه البذرة الصغيرة التي أراها الآن ضعيفة وهشة، لكنها تظل تحمل في طياتها وعداً خفياً، وعداً بأن هذه الشجرة، التي فقدت أوراقها، ستجد يوماً ما القوة لتزهر من جديد. ربما، يوماً ما، ستعود الحياة إلى هذه الأغصان الجافة، وسيتبدل هذا الخريف القاسي بربيع جديد، ربيع ينبض بالحياة والأمل، حتى لو كان الآن يبدو بعيداً كحلم يتلاشى مع أول شعاع شمس في صباحٍ بارد.