صرخة التمرد: حين يختنق الفكر في سجن الجهل
بقلم: د. عدنان بوزان
في عالمٍ مملوءٍ بالضباب، يحاول الجاهلون أن يُلبسوك أفكارهم كعباءةٍ تلتف حولك، تثقل كاهلك وتخنق روحك. هؤلاء الذين لم يروا أبعد من أنوفهم، يؤمنون بأن الحياة هي قالبٌ واحدٌ، وأن من يخرج عن هذا القالب، هو في نظرهم شخصٌ ضال، مجنون، ومتمرد. إنهم لا يدركون أن الحياة تتشكل من ملايين القوالب، وأن الفكرة الواحدة لا يمكن أن تحتوي على كل أبعاد الوجود.
حين تحاول أن تفكر خارج الصندوق، حين تتجرأ على طرح أسئلة تتجاوز المألوف، تجد نفسك في مواجهة جدارٍ من الصمت والرفض. يُمطرونك بأحكامهم المسبقة: "هذا ليس طريق العقلاء، إنما هو طريق المجانين!". أنت في نظرهم شخصٌ تخلى عن الواقع، نزع عنه عباءة الجماعة ليرتدي ثوب التفكير الفردي. وفي عالمهم المغلق، التفكير الفردي هو الجريمة الأكبر.
تُصبح فجأة غريباً في موطنك، منبوذاً ممن يفترض أن يكونوا أهلك ورفاقك. تسعى إلى النجاة من قيودهم، وتبحث عن أفقٍ أوسع، عن فكرةٍ تمتلك الحرية بأن تتنفس، لكن المجتمع يصر على حصرك في زواياه المظلمة. تصير تلك القيود سجوناً غير مرئية، لكنها تشدّك، تخنقك كلما حاولت الابتعاد. يحاولون أن يجعلوا منك نسخةً أخرى من ضياعهم، لأنهم لا يحتملون فكرة أن هناك طريقاً آخر للحياة، للفكر، للتعبير.
في أعينهم، أنت المتمرد. لست متمرداً على القيم النبيلة أو المبادئ السامية، بل على تلك الجدران التي حُبست فيها عقولهم. يريدون منك أن تعيش حياةً لا تخصك، أن تتنفس هواءً ملوثاً بأفكارهم القديمة التي لا تعرف للزمن تغيراً ولا للمعرفة نمواً. وفي كل مرة تقاوم فيها، تُغلق عليك أبواب الاحترام والقبول، يصبح وجودك تهديداً لهم، لأنك تعكس لهم ما يرفضون أن يروه في أنفسهم: الخوف من التغيير.
ليس الجنون في أن تكون مختلفاً، بل الجنون الحقيقي هو أن تقبل أن تعيش حياتك وفق معايير الآخرين، أن تخاف من التفكير، من التساؤل، من كسر القوالب التي صنعها الجهلاء. هم يعتبرونك خائناً، لأنك لم تتماهَ معهم، لم تشاركهم في أوهامهم. لقد اخترت طريقك الخاص، طريقاً ربما يكون وعِراً وشاقاً، لكن فيه روحك الحرة التي لا يمكن أن تُقيّد.
المجتمع الجاهل لا يحتمل الأصوات التي تختلف، لأنه لا يعرف كيف يتعامل مع الأفكار الجديدة. يهاجمها، يُهمشها، يُنكرها، لكنه في النهاية يعرف، ولو في أعماقه المظلمة، أن التغيير قادم، وأن الأفكار الحقيقية لا تموت. وقد تكون تلك الأفكار المجنونة التي ينعتها بالسخف هي بذور النهضة الجديدة.
فلتكن أنت ذلك المجنون، ذلك المتمرد، ذلك المنبوذ. لأنك عندما تحرر نفسك من قيود الجهل، تفتح أمامك أبواب الحكمة. إنهم سيصرخون، سيتهمونك بالخروج عن المألوف، لكنك حينها ستكون قد وجدت الحقيقة التي يجهلونها. وفي النهاية، المجتمع الجاهل سيُدرك متأخراً أن تمردك كان الطريق نحو نورٍ لم يعرفوه يوماً.