أحن لذاك البعيد: دموع على أطلال الزمن
بقلم: د. عدنان بوزان
في غياهب الذاكرة، حيث تنام الذكريات في أحضان الزمن، أجد نفسي أسير بين طرقات معطرة بعبق الماضي، تتألق في سماء الحنين بألوان زاهية كأنها رسمة من خيال بعيد. كان ذلك البعيد عالماً من الأمل الصافي، حيث كانت الأيام تتدفق كجدول صافي، واللحظات تُنقش كحبات الندى على أوراق الزهور. الألوان كانت تنبض بالحياة، وكل نغمة من الطبيعة كانت تحكي قصة لا تُنسى.
كانت الأنهار تنساب بهدوء بين الأحراش، وتُعانق الأفق كما تعانق الذكريات الروح، حاملة معها لمسات من السحر والصفاء. الأشجار كانت تُغلف كل زاوية بظل عميق، كأنها تحتضن أسرار العالم المفقود. كانت الشمس تشرق بألوان دافئة، تبعث دفئاً في القلب، وتُضيء المساحات الخفية في الروح.
في ذلك البعيد، كنت أعيش في حلم ممتد، حيث كل لحظة تحمل في طياتها جمالاً لا يُضاهى. كان الضوء يتخلل عبر أوراق الأشجار، ليشكل لوحات فنية من أمل صادق. وكانت نسائم الهواء تهمس بأسرار لا يفهمها إلا القلب الحساس، تدغدغ الروح بلطف، وتُثير فيها شوقاً يلهب المشاعر.
لكن، مع مرور الوقت، تحول ذلك البعيد إلى خيال ميت. أصبح كل لمحة من ذلك الماضي، وكل نغمة من ذلك الزمن، مجرد أطياف ضبابية تذوب في ضوء الواقع القاسي. كلما حاولت الإمساك بتفاصيله، تجدها تتبخر كحلم سرعان ما ينقشع. الحنين يلتف حولي كضباب كثيف، يملأ الأفق ويعصر القلب، ويترك خلفه شوقاً مؤلماً لا يمكن تجاهله.
أحن إلى تلك الأيام التي كانت تُذيب كل الألم وتغمرني بفيض من السعادة البسيطة. أحن إلى تلك اللحظات التي كانت تعانق الروح وتعطيها ألوان الحياة المشرقة. واليوم، وأنا أسترجع تلك الذكريات، أجد أن الحنين إلى ذلك البعيد ليس مجرد شعور، بل هو جرح غائر يذكرني بكل ما كان، بكل ما فقدته، وبكل ما كنت أتمنى أن يستمر.
الحزن يلتف حول قلبي كخيوط دقيقة من ظلال الألم، ويجعل كل لحظة من الحنين تثير شجناً عميقاً. أحن إلى البعيد لأنه كان نقطة النقاء في حياتي، حيث كان كل شيء يشع بالحب والبراءة. لكن الآن، أصبح ذلك البعيد ذكرى تدمع لها العين وتدمي القلب، وتُذكّرني بما كان يمكن أن يكون، وبما كان يمكن أن تدوم سعادته.
في كل لحظة من الحنين، أعيش بين طيات الذكريات وأحتفظ بحب عميق لتلك الأيام التي مضت. أحن إلى تلك اللحظات لأنها كانت بداية القصة، بداية الحلم، والحب، والأمل. وفي كل مرة تتجلى في خيالي، تذكرني بأن الحنين ليس مجرد رحلة عبر الزمن، بل هو رحلة عبر الروح، حيث يبقى القلب دائماً متمسكاً بجمال ما مضى، رغم قسوة الفراق.
أحن لذاك البعيد، إلى عالم كان فيه الحلم حقيقياً، والآمال تصطف كنجوم تتلألأ في سماء صافية. كان البعيد يخبئ في طياته لحظات لم تُدرك قيمتها إلا عندما أصبحت من الماضي، كأنها لوحات فنية تذوي على جدران الزمن، تاركةً خلفها بصمات خافتة من الألوان التي اختفت مع كل نسمة ريح.
أحن لذاك البعيد، إلى زمن كانت فيه الأحلام تتراقص على نغمات الأمل، حيث كانت الأرواح تسافر بحرية على أجنحة الذكريات. أتذكر كيف كانت الشمس تشرق برقة على الأفق، تذيب الصقيع الذي يحاصر القلوب، وتدفعني للركض عبر الحقول التي كانت تنبض بالحياة والبراءة. كان كل شبر من الأرض كأنما يحمل وعداً بالخلود، وكل لحظة كانت تعبر كفيلم سينمائي، تُنقش ذكرياتها في الذاكرة كمنقوش على الحجر.
لكن ذلك البعيد لم يكن سوى حلم في غفوة متأخرة. اليوم، أصبح مجرد أطياف مفقودة وضباب يلتف حول قلب متعب. أحن إلى الضحكات التي كانت تتردد في أرجاء تلك الأيام، إلى العيون التي كانت تُغرقني بالحب، وإلى الهمسات التي كانت تُريح النفس من ثقل الحياة. أحن إلى الأوقات التي كانت فيها الحياة تُعاش ببساطة، حيث لم تكن هناك حدود للأمل، ولم يكن الحزن يمتلك أي قيد يربط قلب الإنسان.
وفي كل مرة أنظر إلى الأمس البعيد، أجد أن الحنين يلاحقني كظل لا ينفصل عني. أرى الصور تتطاير أمام عيني كفراشات مغبرة، وأسمع الأصوات التي تبكي في صمتها، تتأمل في ذكرى الأيام التي لا تعود. أشعر وكأنني أسير عبر صحراء بلا نهاية، حيث لا يمكنني إلا أن أسترجع صور الأمل المفقود، وأحمل معي عبء الذكريات التي تملأ القلب بالأسى.
أحن إلى ذلك البعيد الذي كان يحمل معه وعداً بالسعادة، ولم يكن يعلم أنه كان يحمل أيضاً بذور الحزن. أحن إلى تلك اللحظات التي كانت تعبر عن حياة نقية، والتي الآن تحولت إلى أشباح تلاحقني في كل زاوية من حياتي. كل ذكرى، كل نظرة، وكل همسة من ذلك البعيد تذكرني بما كان يمكن أن يكون، وما كان من الممكن أن نعيشه، لكنها تُذكرني أيضاً بما فقدته، وتضيف إلى فجيعتي أبعاداً جديدة من الألم.
وفي ختام كل ليلة، عندما يغمرني الظلام ويخيم الصمت، أجد أن الحنين إلى البعيد ليس مجرد رغبة في استعادة الماضي، بل هو شهادة على أن الزمن قد يمر، والأماكن قد تتغير، ولكن القلب سيبقى دائماً متمسكاً بما كان، حاملاً بين طياته دموعاً لم تُبكي بعد. أحن إلى ذلك البعيد لأنني أعلم أنه رغم كل الألم، فهو يحمل في طياته جواهر من الذكريات التي تستحق التأمل، حتى وإن كانت هذه الذكريات مزيجاً من الفرح والحزن، من الأمل والفقدان.