حين يشتعل الحنين في ظلال الليل

بقلم: د. عدنان بوزان

في الليل، عندما تهدأ جميع المعارك وتَسكُن أصواتُ الكون، يبدو العالم وكأنه يَغرق في بحرٍ من السكون العميق. تتلاشى صَخَب الأيام خلف أستار الظلام، كأنَّها لم تكن يوماً. تُغلق الأبواب، ويَحتمي البشر بأحضان وسائدهم بحثاً عن الراحة والهروب من أعباء الحياة، وتَغفو السماء بنجومها المتلألئة، ترسل بصمتها الرقيق إلى الأرض. لكن هناك معركة واحدة لا تعرف الهدوء، لا تُغلق أروقتها، ولا تنطفئ نيرانها... إنها معركة الحنين.

الحنين هو ذاك الشعور الذي يُقاتل الروح في صمت الليل، يَغزو القلب بلا استئذان، يَسحبك من حاضرِك إلى ماضٍ لا يزال يُناديك، وإن كان بعيداً، مُرهِقاً، وربما ضاع في غياهب الزمن. تتوه العيون في ظلام الغرفة، لكن العقل يستمر في بناء عوالمه الخاصة، حيث يعود كل شيء كما كان. يُفتح صندوق الذكريات، وتتساقط الصور كشلالٍ جارف، تُغمر فيضاناتُ المشاعر القلب، فتشتعل الذكريات بنيرانٍ لا يُطفئها إلا بزوغ الفجر.

في هذه المعركة، لا سيوف ولا دروع، بل أسلحة أَكثر قسوة؛ صوت عابر من الماضي، مشهد غير مكتمل، أو حتى عطر يتسلل عبر نافذة الذاكرة. يَأتي الحنين ليضعك وجهاً لوجه أمام أحلامٍ قديمة، أشخاصٍ فارقتهم، أماكن لم تعد موجودة، ووعوداً لم تتحقق. تحاول أن تُبعد شبح الذكرى، أن تُقنع نفسك بأن الماضي مضى، لكن الحنين لا يُصغي إلى منطق الوقت.

في ليل الحنين، تَزداد اشتعالات الروح، كأنَّ لهيبَ الفقدان يُؤجَّج على مدار الساعة. تَستيقظ فيك تلك اللحظات التي كنت تظنها طُويت مع صفحات الزمان، إلا أنها تظل حيّة، نابضة تحت رماد الأيام. كل غصة لم تُبح بها، وكل كلمة لم تقلها، تَرتفع كأنَّها شعلة تحترق في جوف الصدر، تُذكرك بكل شيء كان من الممكن أن يكون، وبكل شخص مرّ في طريقك وترك أثراً لا يمحوه الزمان.

وفي هذه المعركة، لا منتصر. لأن الحنين ليس مجرد اشتياق إلى أشخاص أو أماكن، بل هو حنينٌ إلى نَفسك التي كنتها. إلى اللحظات التي مرَّت بأسرع مما كنت تدرك، إلى الأوقات التي تمنيت لو عشتها بأكثر عمق، وأشد انغماساً. إنه اشتياقٌ ليس فقط للآخرين، بل لجزء من ذاتك تاه في دوامة الحياة.

حين تتسلل تلك اللحظات في الليل، تصبح كل الأشياء أكثر حدة: نبرة صوت عزيز قديم، ضحكة أطلقتها مع الأصدقاء في يوم غائم، أو حتى تفاصيل بسيطة كلمسة على كتفك من شخص لم تعد تراه. الحنين يَجمع كل هذه الأشياء الصغيرة، يَضخها في قلبك دفعةً واحدة، فتشعر بامتلاءٍ مؤلم، ودفءٍ يغلي تحت جلدك.

قد تظن أن الصمت المحيط بك يمنحك سلاماً، لكنه في الواقع يفتح الباب أمام المعركة لتتوسع. لأن في الليل، كل شيء ساكن، كل شيء منتظر، إلا الحنين. هو كالنار المشتعلة التي تأبى أن تخمد، تأبى أن تستسلم للزمن. هو الشعور الذي يأخذك من حاضرك بلا مقاومة، ويُعيدك إلى حيث لا تستطيع العودة، إلى عوالمٍ لا يُمكنك العيش فيها مجدداً، لكنها تعيش فيك.

في عمق هذه المعركة، تكتشف هشاشة الإنسان أمام عواطفه. تُدرك أن الحنين ليس ضعفاً، بل هو قوة ذكرياتك، قوة ماضيك الذي يتشبث بك. هو تلك المشاعر التي لم تمت، التي ما زالت تجد فيك مَنزلاً، وتبحث عن دفءٍ مفقود، عن لمسةٍ أخيرة، أو كلمة وداع لم تُقال.

قد تحاول أن تَهرب من الحنين، أن تُقاومه، أن تُغلق بوابة الذكريات، لكن في الليل... في هذا الظلام الحالك، ليس هناك مكان للاختباء. الحنين يعرف طريقه إليك، يلتف حولك كغيمة ثقيلة، يجعلك تواجه كل ما لم تُواجهه من قبل. وفي النهاية، تُسلم نفسك، تَغرق في أمواج الذكريات، تُبحر مع الماضي الذي لا يُبالي بحاضرك، وتدع تلك المعركة تستمر حتى آخر قطرة من الليل.

لكن، حين يُطلُّ الصباح، وتشرق الشمس بنورها، تتراجع المعركة قليلاً. يعود الحنين ليختبئ في ظلالِ الذاكرة، منتظراً حلول الليل من جديد، لأن ليل الحنين لا يعرف النهايات، بل هو اشتعال دائم، يغزو الروح في كل ليلة، لا لينتصر، بل ليُذكِّرنا بأننا نَحمل في قلوبنا حياةً أخرى، حياةً من ذكريات قديمة، لا تنطفئ أبداً.

أضف تعليق


كود امني
تحديث

X

تحذير

لا يمكن النسخ!