صرخة الألم
بقلم: د. عدنان بوزان
في زاوية مهملة من قلب الليل، حيث لا يسمع أحد سوى الصمت الخانق، انطلقت صرخة مدوية. لم تكن صرخة عادية، بل كانت صرخة الألم. ليست تلك الصرخات التي تعبر عن وجع الجسد فقط، بل صرخة تتجاوز الحدود الفيزيائية لتلمس أعماق الروح.
كأنها زفرة متراكمة منذ سنوات، صرخة انفلتت من قيود الصبر. صرخة تمزج بين الآهات المكتومة والدموع التي لم تجد طريقاً للخروج. ذلك الألم الذي يبدأ كنبضة هادئة داخل الصدر، كأنها مجرد وخزة عابرة، لكنه يكبر ويشتد، يتضخم حتى يصبح كالطوفان الجارف الذي يجتاح كل شيء في طريقه، يعيث فساداً في الروح ويمزق صمت العقل.
الصرخة كانت تعبيراً عن جروح متراكمة، عن أحلام تحطمت، عن ثقة خُذلت، وعن قلب ضلَّ طريقه بين كثبان الخيبات. هي ليست فقط شكوى، بل هي أعمق من ذلك. هي صوت للأنين الذي لا يُقال، للشعور بالعجز، للعالم الذي يبدو غير عادل، وغير مهتم بما يثقل كاهل الأفراد. إنها تلك اللحظة التي يشعر فيها الإنسان أن العالم كله ضدّه، وأن الحياة قد تحولت إلى سلسلة لا تنتهي من المتاهات المظلمة.
هل جربت يوماً أن تصرخ بكل قوتك؟ أن تخرج كل ما في داخلك من ألم وكبت وكلمات لم تُقال؟ أن تصرخ لتسمع نفسك، قبل أن يسمعك الآخرون؟ هذه الصرخة ليست مجرد تفريغ؛ إنها إعلان، تحدٍّ صارخ في وجه كل ما كان يحاول إسكاتك. هي صوت داخلي يقول: "أنا هنا، على الرغم من كل شيء، سأبقى.
" الألم يأتي في أشكال عديدة. قد يكون جسدياً عندما يخونك جسدك ويصبح سجناً يعذب روحك. وقد يكون نفسياً حين تتصارع مع أشباح ماضيك وأفكارك. لكنه في كل حالاته، يحمل تلك الصرخة التي تنتظر الفرصة المناسبة لتخرج، لتعبّر عن نفسها. وربما، في تلك اللحظة الحاسمة، لا يعود للألم حدود، بل يصبح مفتوحاً، يفيض ليغمر كل شيء حولك.
ويا لها من صرخة... تلك التي تحمل في طياتها كل الضعف وكل القوة. الضعف الذي يجعلنا نبكي حين تفيض بنا الحياة، والقوة التي تدفعنا للوقوف مجدداً رغم كل شيء. إنها اللحظة التي ندرك فيها أننا بشر، مزيج من القوة والهشاشة، من الكمال والعيوب، من الفرح والحزن.
أحياناً، تكون صرخة الألم هي السبيل الوحيد للبقاء. هي الطريقة التي نتحرر بها من القيود التي صنعناها لأنفسنا، القيود التي فرضها المجتمع أو الظروف أو حتى أنفسنا. الصرخة تعلن أننا لم نعد قادرين على التحمل، لكنها في نفس الوقت تفتح الباب لشعور جديد: شعور بالتحرر.
بعد الصرخة، يأتي الصمت، لكنه ليس صمت الخنوع، بل صمت التفكر. صمت يعقبه إدراك أن الألم جزء من الحياة، وأنه رغم مرارته، فإنه يحمل في طياته درساً. الألم يعلّمنا الصبر، يعيد تشكيل نفوسنا، يخلق في داخلنا قوة جديدة لم نكن نعلم بوجودها.
وفي نهاية المطاف، تكون صرخة الألم بداية جديدة. هي بداية لإعادة بناء ما تهدم، لإعادة تشكيل الذات بطريقة أقوى وأعمق. لأن الألم، كما هو مرير، هو أيضاً معلم عظيم. يعلمنا أن الحياة ليست دائماً عادلة، لكنها تستمر. يعلمنا أن الصرخات، مهما كانت عالية أو مدوية، ليست نهاية المطاف، بل هي جزء من رحلتنا الإنسانية.