تحت سماء من غيوم الأمل

بقلم: د. عدنان بوزان

تتسلل أشعة الشمس إلى الأفق ببطء، كعازف خجول يستعد لبدء سيمفونيته في عالم يغمره الغموض. تغفو الطبيعة في أحضان خريف دافئ، حيث تتراقص أوراق الأشجار حولي في رقصة وداع أخيرة قبل أن يغطّيها الشتاء بعباءته البيضاء. أستند إلى جذع شجرة عتيقة، آخذاً نفساً عميقاً يعيدني إلى زمن كان فيه قلبي ينبض بقوة. هنا، في هذا المكان، تتداخل أحلامي مع الواقع، وتبدأ قصتي.

تنبت الأزهار تحت قدمي، تتأمل في عينيّ كأنها تسألني: ماذا جرى لك؟ أين اختفى ذلك الشغف الذي كان يشعل فيك نار الحياة؟ أُجيبهم في سرّي، لقد تاهت روحي في متاهات الاشتياق، تبحث عن لحن قديم يتردد صداه في أعماق قلبي. أمدّ يدي لالتقاط إحدى تلك الأزهار، أتمسك بها كطفل ضائع يلوح بأمل في عينيه، لكن الرياح تعصف بها بعيداً، فتتناثر بتلاتها في الهواء، تراقصها أنفاس الغياب.

في زاوية من ذاكرتي، تتجسد صورتك، كحلم عابر تحت ضوء القمر. أراها تبتسم، يضيء وجهها كنجمة تتلألأ في سماء حالكة. أريد أن أستعيد تلك اللحظات، تلك الضحكات التي كانت تملأ المكان، لكن الوقت يشدني إلى الوراء، يحبسني في زنازين الذكريات. أستشعر ثقل غيابكِ، كأنكِ غيم يمطرني بالحزن والحنين، فأنا غارقٌ في مياه الذكرى، أبحث عن أي حبل ينقذني من الغرق.

الليل يتقدم بخطواته البطيئة، متلألئاً بألف نجمة، وكأن السماء تحتضن أحلامي المبعثرة. أحاول كتابة اسمك على صفحاته، لكن الكلمات تفلت من بين أصابعي، كأنها تتجنب البوح بما يختلج في صدري. هل ستعودين يوماً، يا نجماً بعيداً؟ أم أنني سأظل عالقاً في هذه الدوامة الأبدية من الانتظار؟

أشعر بجفاف عروقي، كأن الحياة قد غادرتني، لكن مع كل خفقة قلب، يندفع الأمل إلى صدري كطائر مكسور الجناحين يحاول الطيران. أعد نفسي بأن أكون أقوى، أن أستجمع شجاعتي وأواجه هذا الفقد، فربما يكمن في الألم جمال لم أكتشفه بعد.

وأنا جالس هنا، تحت سماء من غيوم الأمل، أستطيع أن أشم رائحة الأرض بعد المطر. قد يكون الفقد مريراً، لكنني أؤمن بأن كل لحظة تعبر ستظل حية في قلبي، لتكون جسراً يربطني بك، حتى لو لم تكوني هنا. سأكتب عنك، عن كل لحظة جميلة عشناها، وسأبقي شعلتي مضاءة، منتظراً عودتك، محاطاً بجمال هذا العالم الذي يرفض أن ينسى.

تدور أفكاري في دوائر بلا نهاية، تحاكي الرياح التي تعصف بأوراق الشجر. أتذكر كيف كنا نمشي معاً، نغني لأحلامنا التي لم تُكتَب بعد، وكأن كل خطوة كانت تُنقش في الأرض بحروف من نور. الآن، كل شيء يبدو شاحباً، كما لو أن الألوان فقدت حيويتها في غيابك. أستطيع أن أسمع ضحكتك تتردد في أذني، لكن سرعان ما يبتلعها الصمت الذي يحيط بي.

مع كل فجر جديد، أشعر بأنني أعود إلى الحياة، لكن سرعان ما يتلاشى ذلك الشعور مع غروب الشمس. أتطلع إلى الأفق، حيث تلتقي السماء بالأرض، وكأنهما يحتفلان بحكايات الماضي، لكنني أرى فقط بقايا حلم قديم يتلاشى. أحتاج إلى صدرك لأضع رأسي عليه، أحتاج إلى كلماتك لتعيد لي الإيمان بأن كل شيء سيعود كما كان. أحتاج إلى لمسة يديك لتوقظ فيّ روحاً كان يُظن أنها غابت إلى الأبد.

أفكر في الأوقات التي قضيناها تحت ظلال الأشجار، نتبادل الأفكار ونحلم بمستقبل مشرق. كانت عيونك تلمع كالألماس، تشع بالأمل والتحدي. كيف يمكن للزمن أن يأخذني بعيداً عن ذلك النور؟ كيف يمكن للغياب أن يتحول إلى جدار عازل بين قلبي وقلبك؟

أغمض عيني، أستمع إلى همسات الرياح، وكأنها تحمل إليّ رسائل من الماضي. أتخيلك هنا، تجلس بجانبي، تشاركيني لحظات السكون، ونشوة الانتظار. لكنني أعلم أنني وحدي، وأن العالم من حولي يعيد تشكيل نفسه، دون أن يأبه لغيابك. كل شيء يستمر، بينما أنا عالق في شبكة من الذكريات، أتساءل عن معنى الفقد.

لكن في أعماق قلبي، أُحافظ على ذاك الأمل، كزهرة تصر على النمو في صخر. أُخاطب الروح التي كانت تسكن بيننا، أقول لها: "لا تفقدي الأمل. إن الغياب لا يعني النهاية، بل هو بداية فصل جديد. ربما يوماً ما، سنلتقي على ضفاف الذكريات، حيث يمكن للأحلام أن تتجدد."

تستمر الغيوم في التحرك فوق رأسي، لكنني أختار أن أرى فيها بشائر الغد. فكل غيوم تمطر، تترك وراءها أرضاً رطبة، مستعدة لاستقبال الحياة من جديد. قد أكون وحيداً الآن، ولكنني لست خالياً من الحب. سأواصل كتابة حروف اسمك في صفحات حياتي، سأدون مشاعري في دفاتر قلبي، عسى أن تصل إليك، حيثما كنتِ.

وعندما يأتي المساء مرة أخرى، سأكون هنا، تحت السماء التي تحتضن آمالي. سأظل أكتب، أُحلق بأفكاري كطائر يحاول العثور على عشّه، لأنني أؤمن بأن الحب، حتى عندما يبدو بعيداً، لا يموت. إنه يظل متأصلاً فينا، كجذور شجرة قوية، تحيا مهما كانت العواصف.

لذلك، مع كل شروق شمس، أُجدد وعدي لنفسي: سأبقى مخلصاً للذكرى، متمسكاً بالأمل، وسأنتظركِ، حتى وإن كانت سنواتٌ تفصل بيننا. سأظل هنا، تحت سماء من غيوم الأمل، أحلم بيوم تجمعنا فيه الأقدار مرة أخرى.

أضف تعليق


كود امني
تحديث

X

تحذير

لا يمكن النسخ!