أطياف الانتظار: حكايات من مدينة لا تنام
بقلم: د. عدنان بوزان
تحت وطأة السماء الرمادية، وفي زوايا الشوارع التي تُظللها الأشجار الجرداء، تبدأ الحكاية، حيث كل شيءٍ يبدو مألوفاً وغريباً في آنٍ واحد. في هذه المدينة التي أطبقت عليها برودة الأيام، يتنقل الأفراد كأشباحٍ تتبعها ظلالٌ طويلة، تتحدث همساً بلغة الغياب. إنها مدينة الحكايات الضائعة، التي لا تعترف سوى بالحزن القادم من قصص لم تُروَ بعد.
هنا، على أحد الأرصفة، جلس رجل وحيد، ملفوفاً بمعطف ثقيل، يراقب بعينيه المبتلتين من الضباب المارّين أمامه. كان وجهه يحملُ خريطةً من التجاعيد التي تنبئ عن حياةٍ مليئة بالصمت، ليس الصمت الذي يُحيط بالعالم الخارجي، بل الصمت الذي يعيش في عمق الروح، صمتٌ يختبئ خلف أعين كل إنسان. كان الهواء يشق طريقه عبر شرايين المدينة، يصفر بين المباني كأنين أمةٍ قديمة نسيها الزمن، بينما الرجل يجلس هناك، مستسلماً لدوامة الذكريات.
في هذا المكان، لم تكن الأرصفة مجرد طرق للمارة، بل كانت مسرحاً لأرواحٍ تبحث عن ذاتها. كل خطوة يخطوها شخصٌ هنا، تحكي قصةً لا يعرفها أحد، وكأن المدينة تُحاكي أوجاع من يعيش فيها. الأرواح التي تسكن هذه الزوايا لا تعرف الراحة، فهي تحمل أحمالاً من الحزن، أحمالاً ثقيلة تتجاوز ما يستطيع البشر تحمله. هؤلاء الذين يمشون بصمتٍ في شوارع المدينة لا يحملون سوى ظل أرواحهم التي أرهقتها الحياة.
وفي هذا المسرح المظلم، كانت هناك امرأة تعبر الطريق، تنساب خطواتها بهدوءٍ، وكأنها تراقب الأرض بحذر، تتهرب من عيون الآخرين، ومن ذكرياتٍ تركتها خلفها. كانت تسير بجوار الأنهار الصغيرة التي تقطع المدينة، وكأنها تحاول أن تجد في ضفافها ملاذاً. شعرها الطويل يتطاير مع الريح كأمواجٍ سوداء تُحاكي عمق السماء، لكنها لم تتوقف عن السير، حتى وصلت إلى جسرٍ قديم، حيث استقرت لتراقب المياه الجارية تحته. تلك المياه التي كانت تشبه حياتها، تمضي بلا هدف، بلا اتجاه واضح، لكنها مستمرة في الجريان.
جلست هناك، وصوت الماء المتدفق كان يُهدئ من ضجيج أفكارها. تذكرت أياماً مضت، حيث كانت الحياة تبدو مختلفة، مليئة بالألوان، مليئة بالأمل. لكنها الآن، وكأنها تعيش في صورةٍ باهتة، كل شيء فيها صار رمادياً. مدّت يدها نحو حقيبتها وأخرجت دفتراً صغيراً، كان دفترها القديم الذي سجلت فيه أحلامها يوماً، لكنها اليوم لم تعد قادرة على كتابة المزيد. كل ما بقي لها هو أن تراقب، كما كانت تفعل الآن.
وفي زاوية أخرى من المدينة، في مقهى قديم تصدعت جدرانه من ثقل الأيام، جلس رجل آخر، يحمل فنجان قهوته بيد مرتجفة. كان وجهه مغطى بهالة من الكآبة، عيناه غارقتان في بئرٍ من الأفكار التي لا تنضب. كان ينظر إلى الباب، وكأنه ينتظر شخصاً لن يأتي. ارتشف من قهوته ببطء، بينما أفكاره تسبح بعيداً في مساحاتٍ من الذكريات التي لا تنفك تطارده.
تأمل المارة الذين يدخلون ويخرجون، ولا شيء يجذب انتباهه حقاً، سوى تلك اللحظات التي تتسلل فيها بعض المشاعر إلى قلبه المنهك. كانت تلك اللحظات نادرة، كأنها نبضات سريعة في قلبٍ كاد أن يتوقف. لكنه، وبطريقته الخاصة، كان يستمر في الانتظار، وكأن في داخله يقيناً أن شيئاً ما سيحدث، أن شيئاً من الأمل سيُولد من بين ركام اليأس.
هذه المدينة لم تكن مجرد مكانٍ يجتمع فيه الغريبون، بل كانت نقطة التقاء الأرواح الضائعة، كل واحد منهم يحمل في داخله قصة لم تُكتب بعد، لكن الجميع مشترك في شيء واحد: الانتظار. انتظار شيء قد لا يحدث أبداً. انتظار لحظة قد تغير كل شيء، أو ربما لا شيء.
وها هي السماء بدأت تُمطر، قطرات باردة تتساقط ببطء، تغسل الأرصفة وتُعيد الحياة إلى الشوارع. لكنها، كالعادة، كانت تغسل الألم أيضاً. تلك القطرات التي تحاكي الدموع الصامتة التي تنهمر من قلوبٍ أنهكها الصراع مع الحياة. والمارة، يمشون مسرعين تحت المظلات، وكأنهم يهربون من شيء أكبر من المطر. ربما كانوا يهربون من أنفسهم، أو ربما من القصص التي لم يجرؤوا على مواجهتها.
وفي خضم كل هذا، وفي كل زاوية من هذه المدينة الباردة، تتراكم الحكايات، بعضها يُنسى، وبعضها يعيش للأبد في قلوب من عايشها. لكن الحكاية الأعمق، هي تلك التي لا تنتهي، التي لا تُكتب أبداً. إنها حكاية الإنسان مع الحياة، تلك الرحلة الأبدية بين الحلم والواقع، بين الأمل واليأس.