في انتظار الغياب: حين يحترق الأمل
بقلم: د. عدنان بوزان
ويلٌ لهذا الزمن... زمنٌ يزهر فيه الوجع في قلوب الأبرياء كما لو كان شريكاً أبدياً في نبضاتهم. كأن الألم قد عقد قرانه على أرواحهم، يعيش في صدورهم ويتنفس من عذاباتهم. يمضي الزمن وتتصاعد صرخات الحزن من حناجر جفّ فيها الأمل، وكلما نطقت، جاءت الكلمات كجروحٍ جديدة لا تلتئم.
الدموع تجري من عيونٍ كانت ذات يوم تشع بالأمل، ولكن الأمل الآن يحترق فيها كالشمع في ليلةٍ لا تنتهي. تلك العيون تنتظر طريقاً نحو الغياب، حيث يسود الصمت وينقطع الوصل مع الألم. لكن حتى الغياب يبدو بعيداً، سراباً يخدعها، يلوح ثم يختفي، ليتركها عالقة بين ألم الوجود وشوق الرحيل.
يا لهذا الزمن، حيث لم يعد الحزن شعوراً عابراً بل لغةً تسكن الصدور، لغةً لا يفهمها إلا من ذاق مرارة الخسارة. هو زمن تتآكل فيه الأرواح بصمت، وتتقاطع فيه صرخات الألم مع صخب الحياة اليومية، فلا يسمع أحد الآهات المكتومة التي تسكن كل ابتسامةٍ وكل حديث.
ليس الألم هنا مجرد عابر، بل هو حقيقةٌ دائمة، كنارٍ تحترق ببطء، لكنها لا تنطفئ أبداً. الأبرياء، الذين لم يعرفوا معنى الظلم أو الخيانة، هم من يتذوقون مرارة هذا الزمن. لقد أصبحت قلوبهم مرتعاً للألم، كأن الحزن وجد فيها ملاذاً آمناً لا يرحل عنه. كل صرخةٍ مكتومة تتردد كصدى لا ينتهي، صدى للمعاناة التي تعيش داخلهم.
في لحظةٍ ما، تنهمر الدموع من عيونٍ أثقلها الوجع. لكن، أليست تلك الدموع تحمل في طياتها ألماً أعمق؟ أليست هي علامة على أن الأمل ذاته، الذي كان يوماً نوراً في الظلام، قد بدأ بالاحتراق؟ نعم، الأمل يذوب كشمعةٍ أوشكت على الانطفاء، ودموعه هي آخر رمقٍ له في مواجهة حتمية الغياب. دموع الأمل غريبةٌ في هذا الوجود، فهي ليست كبقية الدموع، بل تعكس احتراق الروح، وتنتظر نهايةً قد لا تأتي أبداً.
في هذا الزمن، الأمل يحترق ببطءٍ قاتل، وكأنه ينتظر الغياب كآخر ملاذ. ينتظر الهروب من واقعٍ أصبح فيه الألم سيداً، حيث لا مكان لأحلام الطفولة أو لبراءة الأيام الأولى. لكن حتى طريق الغياب، ذلك الملاذ المرغوب، قد لا يكون نهايةً رحيمة. إنه طريق مليء بالأسئلة، بالفراغ، وبالنسيان. وماذا لو كان الغياب مجرد انتقالٍ من وجعٍ إلى وجعٍ أعمق؟ من ألمٍ إلى ألمٍ أكثر حدة؟
هذا الزمن هو زمن الأوجاع الخفية، تلك التي لا تُرى بالعين المجردة، لكنها تُحسّ بعمق القلب. كم من الأشخاص يعيشون بيننا وقد محا الحزن كل ملامح الفرح من وجوههم؟ كم من الأبرياء يمرون بجانبنا ونحن غافلون عن صرخاتهم الصامتة؟ دموعهم لا تنهمر إلا في ظلام الليل، حيث لا يراها أحد. لقد تحولت الحياة إلى معركةٍ نفسيةٍ لا تنتهي، حيث يكون البقاء على قيد الحياة دون أن يفقد الإنسان عقله هو النصر الوحيد.
لكن ماذا يُفعل عندما يصبح الوجع شريكاً لا يفارق؟ عندما يصبح الألم هو الحقيقة الوحيدة التي يستطيع الإنسان لمسها؟ أليس الهروب هو الخيار الأفضل؟ البحث عن مخرجٍ، حتى لو كان ذلك المخرج هو الغياب؟ فالأمل، مهما بدا مشرقاً في البداية، له حدود. وعندما يحترق الأمل ويذوب، يترك خلفه فراغاً لا يملؤه شيء. إنه فراغٌ قاتل، يعكس العجز والخوف من المستقبل.
في تلك اللحظة، حين ينطفئ آخر شعاع من الأمل، يتبقى فقط الانتظار. انتظار النهاية، انتظار الغياب، انتظار الراحة التي قد تأتي مع النسيان. لكن، الغياب ليس دائماً الخلاص. ربما يكون أكبر خدعةٍ نلهث خلفها، ربما لا يحمل معه أي خلاصٍ حقيقي، بل قد يكون محطةً أخرى في رحلة الألم الطويلة.
كلما مضى الزمن، زادت حدة الألم، وتعمقت الجراح. إنه زمن لا يعرف الرحمة، يلتهم براءة الأبرياء بلا هوادة، ولا يترك لهم سوى بقايا من الأحلام المحطمة. الحزن يتراكم في قلوبهم كجبالٍ من الظلال التي لا يمكن التخلص منها. ويلٌ لهذا الزمن، الذي صار فيه الألم شريكاً أبدياً، والحزن لغةً خفية لا يسمعها أحد، لكن آثارها واضحة في كل خطوةٍ نخطوها، في كل نفسٍ نتنفسه.
وهكذا، نجد أنفسنا في انتظارٍ دائم للغياب، نتوق إليه كملاذٍ أخير. لكننا في أعماقنا نعلم أن الغياب ليس خلاصاً، بل هو وجه آخر لهذا الألم الذي لا يفارقنا. ننتظر، نحترق، ثم نذوب في صمتٍ تام، بينما يتقدم الزمن بنا نحو نهاياتٍ مجهولة، نهاياتٍ قد تكون أكثر ألماً من البدايات.