وصية أبي

بقلم: د. عدنان بوزان

مات أولاد أبي في أول معركة الحياة، في جبهة الحقيقة، حيث تلاشى الصراخ والأمل أمام ويلات الواقع. كانوا كالجنود في ساحة حرب غير مرئية، مقاتلين بشرف وثبات، لكن بأسلحة خالية من اليقين. لقد ناضلوا في ساحات لم نعرف حدودها، ولم نكن ندرك عمق خنادقها. سقطوا، وكنتُ أراقبهم، عاجزاً عن أن أمد يدي إليهم، متقلباً بين ألم العجز ومرارة الخذلان.

أبي، يا من غرست فينا روح الصمود ووصيتنا بأن "الاتحاد قوة"، لقد حاولتُ، حاولتُ أن أحافظ على تلك الوصية التي كانت تشبه النور في ظلام هذا العالم. لكن العالم كان أقوى من أحلامنا، وأكثر شراسة من وصاياك. كان يدير معاركه بقوانين لا نعرفها، وقواعد تتغير مع كل نَفَس نخسره.

سامحني يا أبي، لقد كنت أتصور أنني قادر على الاحتفاظ بروح الوحدة التي علمتنا إياها. كنت أؤمن أن اليد الواحدة لا تستطيع أن تهزم إذا كانت ممسكة بيد أخرى، كما كنت تقول لنا دائماً. ولكنني لم أدرك أن اليد الأخرى قد تخون، وقد تفلت في اللحظة الحاسمة، وتتركنا وحدنا نقاتل في الساحة.

يا أبي، أتعلم كم مرة تذكرت كلماتك تلك؟ "الاتحاد قوة". كانت تجري في عروقي، تتردد في مسامعي، لكن الحقيقة المرة التي واجهتها في معركة الحياة كانت أقوى من كل الشعارات، من كل الآمال. فقد عشنا في زمن تُجرَّد فيه الحقيقة من ملابسها وتُعرض عارية، في زمنٍ يُحتفى فيه بالفُرقة والتمزق، ويُهمش فيه الاتحاد، حيث تزداد المسافات اتساعاً بين الإخوة، وتبنى الجدران بين القلوب.

كل واحد منا صار وحيداً يا أبي، كلنا حاولنا أن نحافظ على وصيتك، ولكن الحياة جرّت أقدامنا إلى معارك منفصلة. كنا نقاتل على جبهات مختلفة، وكل منا ظن أن معركته هي الأهم. في النهاية، لم يكن الاتحاد إلا فكرة جميلة، حلماً يستحيل تحقيقه في هذا العالم الذي مزقته الأهواء والتفرقة.

أولادك يا أبي، كانوا يحلمون بالنصر، وكانوا يؤمنون أن الاتحاد قوة، لكنهم لم يعرفوا أن القوة الحقيقية ليست فقط في الأيدي المتشابكة، بل في القلوب التي تصمد حتى النهاية، في الأعين التي لا تضللها الأوهام. لقد كانت معركتنا في جبهة الحقيقة، تلك الجبهة التي لا ترحم، والتي تكشف عن ضعفنا وانقسامنا في لحظة المواجهة.

أنا آسف يا أبي. حاولتُ، لكنني لم أستطع أن أجعل من الاتحاد درعاً يحمي إخوتي. ماتوا واحداً تلو الآخر، بعضهم في صمت، وبعضهم في صراخ، وكلهم سقطوا في ساحة لا تعرف الرحمة. كنت أشاهدهم يتساقطون، وكانت يدي ترتجف من الألم، من الخوف، من شعوري بالعجز عن إنقاذهم.

كم هو مرير أن ندرك في النهاية أننا لسنا بتلك القوة التي كنا نتصورها، أن الحياة لا تُهزم فقط بالأحلام، وأن الحقيقة غالباً ما تكون جبهة خاسرة، حيث يقف الإنسان وحيداً أمام تيارات لا يستطيع أن يقاومها مهما حاول.

الاتحاد كان قوتنا يا أبي، ولكنني الآن أدرك أن القوة ليست فقط في الاتحاد، بل في القدرة على البقاء، على الصمود حتى حين تنهار الجبهات وتسقط الرايات.

أبي الغالي، لا أريد أن أخفي عنك شيئاً. حتى أولادي تفككوا وتشتتوا وتفرقوا، وفشلوا في مقاومة الحياة. عشتُ أراقب معاناتهم، تتجسد أمامي كصورة مؤلمة لا أستطيع تغييرها. كنت أرى في عيونهم بريق الأمل، لكن ذلك البريق سرعان ما بدأ يتلاشى، كزهرات ذبلت تحت شمس قاسية.

أحدهم كان يحلم بأن يكون طبيباً ناجحاً وكاتباً، ينقل أفكاره إلى صفحات الكتب، ولكن خيبات الأمل كانت أقوى من كلماته. كان يجلس في غرفته ساعات طويلة، ورقة بيضاء أمامه، وأفكاره تتلاشى كغيوم تتبخر في سماء شاحبة. أما الآخر، فقد انغمس في دوامة الحياة اليومية، محاولاً التمسك بأي فرصة، ولكنه كان يشعر كمن يحاول الإمساك بالماء بين أصابعه، كأن الحياة تتلاعب به وبأحلامه.

وأيضاً ابنتي، التي كانت تنظر إلى العالم بعيني طفل لم يتلوث برذاذ الفشل، وجدت نفسها محاصرة في دوامة من التوقعات والأعباء. كنت أراها تحاول أن ترتدي قناع السعادة، لكن في أعماق قلبها، كانت تخفي أوجاعاً لا يمكن لأحد أن يراها. كانت تحاول أن تبتسم، لكنني كنت أرى الدموع تترقرق في عينيها، تخفيها وراء ضحكة مبحوحة.

أبي، لقد شعرت بالعجز، عجز لا يوصف، فحاولت أن أكون لهم السند الذي يحتاجونه، لكنني كنت أدرك أنني أواجه معركةً لا أستطيع خوضها عنهم. لقد تربوا على وصيتك، لكن القوانين التي تحكم الحياة لم تكن في صالحهم، تلك القوانين التي تفضل القوي وتهمش الضعيف.

لقد كنت دائماً أقول لهم: "اجتمعوا، كونوا معاً، فالنجاح في الاتحاد"، لكنهم كانوا يجدون صعوبة في تجاوز المسافات التي كانت تتسع يوماً بعد يوم. كلما حاولوا الاقتراب، كانت الأقدار تفرقهم، وكأنها تتحدى كل ما علمتنا إياه.

يا أبي، كم كنت أتمنى لو كنت هنا لترى كيف تتكسر الأحلام تحت وطأة الواقع. كم كنت أتمنى لو استطعت أن أضع بين يديهم وصيتك، لكنهم لم يستمعوا، فقد غلبت عليهم الضغوط والتحديات.

الآن، أعيش مع شعور الفقد، ليس فقط لفشلهم، بل أيضاً للفشل في أن أكون الأب الذي يلهمهم، الذي يقودهم نحو النور. إنهم ضائعون، وفي ضياعهم أرى ظلال أحلامي تتلاشى، وكأنني أرى انعكاساً لماضيك في عيونهم، ماضياً كان يحمل الأمل ولكنه انتهى إلى شتات.

أنت لا تعرف كم كانت تجارب الحياة قاسية. فقد ظننتُ أنني أستطيع أن أكون المرشد، لكن الحياة كانت تكتب سيناريو آخر، أحدُنا لا يُمكنه التحكم فيه. لقد سقطت عائلتنا في دوامة، وكلما حاولت سحبهم إلى النور، كانت الظلال تنجرف بهم إلى أماكن لا نريدها.

فهل نستطيع أن نعود إلى تلك الأيام الجميلة، حيث كنا نضحك معاً، ونتشارك أحلامنا؟ أين هي الأوقات التي كنا نتجمع فيها حول مائدة واحدة، نتبادل القصص ونغني أغاني الأمل؟ لقد تحولت كل تلك اللحظات الجميلة إلى ذكريات مؤلمة، أراها تتجسد في وجوه أولادي الذين فقدوا البريق في عيونهم.

أبي، في هذا الضياع، أحتاج إليك أكثر من أي وقت مضى. أحتاج إلى حكمتك، إلى قوتك، إلى شعورك بالأمل الذي كان ينير لنا الطريق. لكنني أدرك أن الحياة ليست كما نريد، وأن المعارك التي نعيشها لا تنتهي دائماً بالنصر، بل أحياناً بالنكبات.

إنني أسترجع وصيتك في كل لحظة، وأتمنى أن تنقذنا، أن تعيد إلينا الأمل، ولكن ربما يجب أن أتعلم كيف أواجه الحياة بمفردي، وأن أجد طريقاً جديداً رغم الألم والفشل.

أضف تعليق


كود امني
تحديث

X

تحذير

لا يمكن النسخ!