حين تنتهي الكلمة، يبدأ الصمت

بقلم: د. عدنان بوزان

هنا تنتهي الكلمة، عند حدود الألم، حين تتجمد الحروف، يتوقف العالم عن النطق. هنا، في تلك اللحظة التي تنتهي فيها الكلمة، يبدأ الألم بالنمو ككائنٍ خفيّ يقتات على الفراغ. الألم، ذلك الشعور الغائر الذي يتسرب في الصمت، أحياناً لا يحتاج إلى أن يُقال؛ بل إنه في لحظاته الأعمق يتحدى اللغة، ويرفض أن يُصاغ في كلمات.

الألم هو الشعور الذي يقيم في القلب، يعتصره ببطء، وكأنه يعيد تشكيل الروح على نارٍ باردة. إنه ذلك الهمس المستمر في الليل، حين تظن أنك قد تخلصت منه، ولكنه يعود ليطاردك في أضعف لحظاتك. تتراكم فيه اللحظات والتجارب حتى يصبح جزءاً من كيانك، ينسج نفسه في أنفاسك، وفي تفاصيل أيامك، وكأنه لا يمكن أن يُفصل عنك.

الحزن، الذي يسير جنباً إلى جنب مع الألم، هو ذلك الظل الذي لا يفارقنا مهما حاولنا الهروب. إنه مثل شجرة صامتة، جذورها مغروسة في أعماق القلب، تتغذى على الذكريات، وعلى الوجوه التي مرت ولم تعد، وعلى الأحلام التي تلاشت قبل أن ترى النور. الحزن هو كتاب مكتوب بأيدٍ مرتجفة، كل صفحة فيه تروي قصةً منسية، تسكنك ولا تتركك.

وما أصعب الحزن الذي لا تعرف سببه. ذلك الحزن الذي ينبع من لا شيء، لكنه يملأ كل شيء. تشعر به وكأنه ثقل على صدرك يمنعك من التنفس بحرية، وكأن العالم بأسره قد ضاق فجأة. يمر الناس بجانبك، يتحدثون ويضحكون، ولكنك تشعر بأنك في عالم آخر، منفصل تماماً عنهم. عالم من الصمت، من الكآبة الصامتة التي لا تجد من يفهمها.

ولكن، لماذا نحتاج إلى الكلمات إذا كانت ستفشل في التعبير عن هذه المشاعر؟ هنا، تنتهي الكلمة، لكن الألم يبقى. يبقى كضوء خافت في آخر النفق، يحاول أن يجد سبيلاً للخروج، لكنه عالق بين الماضي والمستقبل. تخذلنا الكلمات عندما نحتاج إليها، تتركنا عراة أمام قسوة الألم، فلا نجد إلا الصمت مأوى لنا.

في نهاية المطاف، لا نبحث عن الشفاء من الألم بقدر ما نبحث عن فهمه. نتساءل: هل هو عقاب؟ هل هو درس؟ أم أنه جزءٌ من طبيعتنا البشرية التي لا يمكن أن تفلت من قبضته؟ ربما الألم والحزن هما الظلان اللذان يرافقاننا منذ ولادتنا، يذكراننا دوماً بأن الحياة ليست إلا سلسلة من الفصول، بعضها مضيء وبعضها مظلم، لكننا نعيشها جميعاً في صمتٍ داخليّ، لا يسمعه إلا من يعرف كيف ينصت إلى نبضات روحه.

حين تنتهي الكلمة، تبقى هذه التساؤلات معلقة في الهواء، تتردد في الفراغ بين الصدور، وتصبح جزءاً من الحكايات التي لم تُروَ بعد. يبقى الألم هو اللغة التي لا تُكتب، ولكنه يُعاش، والحزن هو الغيم الذي يظلّل حياتنا، حتى عندما نحاول أن نمسح دموع السماء.

أضف تعليق


كود امني
تحديث

X

تحذير

لا يمكن النسخ!