هنا سأصمت قليلاً

بقلم: د. عدنان بوزان

في زحام الأفكار المتدفقة، حيث تنساب الكلمات كأنهارٍ تتلون بأطياف المشاعر المتباينة، أجد نفسي في لحظةٍ من السكون العميق، لحظةٍ تدعوني إلى التراجع خطوة إلى الوراء. هنا، سأجعل من صمتي جسراً إلى أعماق الذات، أستمع فيه إلى أنين الروح الخافت، وأراقب كيف تتراقص الذكريات كأوراق شجرٍ تتساقط في خريف العمر، حاملةً معها بقايا الأحلام المنطفئة.

في هذا الهدوء الذي يلفني، تتكشف أمامي أبعادٌ جديدة من الحقيقة، حقيقة الروح المثقلة بصراعات الحياة، تلك التي تختبئ خلف ضجيج الكلمات. هنا، سأصمت لأمنح نفسي فرصة الاستماع إلى صمت الوجود، إلى ما لا تستطيع الأصوات أن تبوح به.

سأغرق في صمتي العميق، كأنني أغوص في بحرٍ من الأحزان التي لا صوت لها. أقترب من تلك الزاوية المظلمة في روحي، حيث تختبئ الذكريات المؤلمة وتتعايش مع الأحلام المنكسرة. أضع رأسي بين يديّ، وأحدق في الفراغ الممتد أمامي. لا شيء يُقال. الكلمات هربت من شفتيّ، تاركةً خلفها صدىً صامتاً، يئن في كل زاوية من زوايا وجودي.

كم مرة حاولت أن أتكلم، لكن الحروف خانتني، تتلعثم وتتحول إلى شظايا مؤلمة تقطعني من الداخل. وهنا، سأصمت... ليس اختياراً، بل قسراً. فالصمت أحياناً يصبح الملاذ الوحيد عندما تخونك اللغة وتثقل عليك المشاعر. إنه الهدوء الذي يتبع العاصفة، ذلك السكون الذي يخفي وراءه صرخات لم تُسمع وأحلام سقطت تحت وطأة الزمن.

أغمض عينيّ في محاولةٍ للهروب، لكن الصور لا تزال تتدفق كأنهار من الحزن. أرى وجوهاً عرفتها يوماً تختفي في ضباب الذكريات. أسمع ضحكاتٍ لم تعد تتردد في الواقع، وأحس بلمساتٍ لم تعد موجودة. حتى الزمن، ذلك الجلاد الصامت، يسحبني بعيداً، بعيداً عن كل ما كنت أظنه حقيقة. وهنا، سأصمت مرة أخرى... لأتقبل أن الحياة ما هي إلا سلسلة من الفقدان، وأننا نمشي على أرضٍ مفروشة بالأحلام المبعثرة.

الصمت هنا ليس هدوءاً، بل هو هدير داخلي، صوت العواصف التي تمزقني. كل لحظة تمر كأنها إبرة تخترقني، وكل ذكرى كأنها جرح لا يلتئم. وبينما تغمرني هذه اللحظات، أتساءل: هل يمكن للروح أن تتكسر دون أن تُسمع؟ هل يمكن للحزن أن يكون عميقاً إلى درجة أنه يصبح غير مرئي؟ وهنا، سأصمت أكثر، لأنني أعلم أنه لا إجابات، فقط الفراغ.

في هذا الصمت، تتدفق الدموع دون استئذان، كأنها أنهار من الندم والألم. تفيض روحي بما لا يمكن التعبير عنه. هنا، سأصمت لأمنح الأحزان حقها، لأدع الحزن يتحدث نيابةً عني. هو الذي يعلم، هو الذي يشعر. أما أنا، فمجرد عابرٍ في صحراء مشاعري، أبحث عن ظلٍ في مكان لم يعرف الضوء.

سأصمت هنا، لأن الصمت هو اللغة الوحيدة التي تفهمها الروح عندما تنكسر. إنه الصدى الذي يتردد في أعماق القلب حين لا يبقى هناك شيء يُقال.

أضف تعليق


كود امني
تحديث

X

تحذير

لا يمكن النسخ!