نداء الجراح: صوت المعذبين على الأرض
بقلم: د. عدنان بوزان
"أنا صوت المعذَّبين على الأرض، ذلك الصوت الذي ينبعث من أعماق الجروح التي لم تلتئم، والصدى الذي يتردد بين جدران التاريخ المتصدعة، شاهداً على أوجاع أجيال مضت، وضياع أحلام تكسرت على صخور القسوة والظلم. أحمل بين حروفي ثقل السنين، ومرارة الألم الذي يعصف بالقلوب المكلومة، صدى يعيد إحياء كل أنين مكتوم وكل صرخة لم تجد لها صدى في عالم يصم أذنيه عن معاناة البشر."
نعم، يسألونني: من أنا؟ ومن أين جئت؟ وما الذي يدفعني إلى نقش الحزن بمداد أسود على بياض الورق؟ يسألونني: لماذا تتخلل مقالاتي الدموع؟ ولماذا تعزف كلماتي على أوتار الألم؟ فيجيبني كل شبح تائه، وكل صرخة مكبوتة في ليل الإنسانية المعتم.
أنا الكاتب، الباحث، الشاعر، والفيلسوف الإنساني، الذي يغوص في أعماق المأساة دون تردد. أكتب لأن الحزن يسكن في زوايا الروح، ولأن الصمت جريمة في عالم يضج بالصراخ. كل كلمة أنسجها هي محاولة لكشف التجاعيد التي نحتها الزمن على وجوه المعذَّبين، تلك القصص المختبئة بين ثنايا العذاب، عن أنين أولئك الذين نسيتهم العتمة خلف قضبان السجون، وعن أصوات لم تعد تُسمع وأرواح تحترق تحت وطأة القوانين الجائرة.
أنا الحقوقي الذي لا ينحني أمام الظلم في الغرف المظلمة، والذي يرفض أن يُحجب النور عن تلك الأرواح المحبوسة خلف الأسوار. أتمرد على الواقع المليء بالخيبات، وعلى النظام الذي لا يرى الإنسان إلا رقماً، وأصرخ في وجه عالم يقف متفرجاً على آلامنا. بياض الورق هو ميداني، وقلمي سلاحي الذي لا يتوقف عن خوض معارك الكلمات. أكتب لأني أرى ما يغض الآخرون الطرف عنه، أكتب لأن الصمت لم يعد خياراً.
نعم، أنا الثائر الذي لا يهدأ، الذي يقف في الساحات حاملاً راية النضال ضد الجهل وضد العقول التي قتلت الإنسانية. كيف لا أكون كذلك وأنا ابن المدن التي احترقت تحت وطأة القهر؟ أنا ابن الأرض التي روت دماء أهلها، والوريث لكل جرح نزف عبر العصور. أكتب لأنني أسمع صرخات الأطفال اليتامى في الليالي الحالكة، لأنني شهدت كيف أغض العالم طرفه عن آلامهم.
أربعون عاماً وأنا أسير على هذا الدرب، كل خطوة تحملني نحو حقائق أشد قسوة، وكل جرح يكشف عن آخر أعمق. رأيت مدينتي تُجرح مرة تلو الأخرى، ورأيت قضيتي الجميلة تُمحى من ذاكرة العالم، قضيتي التي احترقت أمام عيون مجتمعات اختارت أن تبتعد، أن تنكر، أن تغمض أعينها عن الحقيقة القاسية.
أكتب منذ أربعين عاماً، ليس بحثاً عن إجابة، ولكن لأن الحزن لا يزال يطرق أبوابنا كل يوم. أكتب لأن الصمت هو الخيانة الكبرى، ولأنني أؤمن بأن الكتابة هي صرخة الحرية الأخيرة، هي الشهادة الصادقة على هذا الظلم الذي يمتد عبر الزمن. من يكتب عن الحزن يكتب عن الحياة بكل ألوانها، لأن الحزن هو الشاهد الصادق على الألم الإنساني.