غربة الروح
بقلم: د. عدنان بوزان
وصيتي، إن مت قريباً..
فليكن لي مثواي في قريتي، حيث رُسمت أولى ملامح طفولتي، تلك الأرض التي تتعانق فيها رائحة التراب مع زهور الربيع، وتحتضن أغاني الطيور المهاجرة التي تروي حكايات العشق والفراق. أريد أن أكون هناك، بين حقول الذكريات، حيث يرحب بي الأفق، وتتساقط أشجار الزيتون بأوراقها كأنها تبكي على أيامي، وتروي أسرار روح تائهة في عالم لا يعرف الرحمة.
أدفنوني بجوار قبر أبي، فقد كان وحيداً كما أنا الآن، غريباً في وطنه، يحمل في قلبه آلام الوحدة والاغتراب الروحي. لقد عانى من وجع الفقد، وترك لي ميراثاً من الكلمات التي لم أنطق بها، ودعوات لم تُرفع في سري. أريد أن أكون قريباً منه، حيث كان دائماً يمد لي يده في لحظات ضعفي، وكأنها حلقة الوصل بين وحدتنا.
لا أريد من أحد أن يعزّي إخوتي أو أقاربي، فإن العزاء بالنسبة لي زيفٌ مؤلم، لا يحمل لي سوى مساحيق من الألفة التي لا تعني شيئاً. كيف يعزيني من لم يعرف قسوة الوحدة التي تعتصرني؟ كيف يمكنهم فهم شعور الاغتراب الروحي الذي يسكنني، ويجعلني ككائن بلا هوية، عالقاً بين ذكريات الماضي وآمال مؤجلة؟ دعوني أرحل بلا ضجيج، كغيمة تبتعد في السماء الزرقاء، تتلاشى بين أفقٍ لا نهاية له.
أريد أن أستكين في ذلك المكان الذي يلتقي فيه الوجع مع الهدوء، حيث يتردد صدى الأنفس المتعبة في صمت القبور. سأترك جسدي هناك، بينما روحي ستتجول في أرجاء قريتي، أبحث عن الفرح الذي هرب مني، وأستعيد لحظات مررت بها تحت شجرة التين والزيتون، حيث كانت الألعاب بسيطة، والأحلام بلا حدود. أريد أن أعود إلى تلك الأيام، إلى قلوب أصدقائي الذين فروا كالعصافير، إلى الضحكات التي كانت تملأ الفضاء وتمنحني شعوراً بالانتماء.
إذا مت، فلا تبكوا عليّ، فالحزن لا يجدي نفعاً. أنا الآن في سلام، في حضن الأرض التي أنجبتني. ولكن تذكروا أن وحدتي كانت غريبة، أنني كنت غريباً حتى بين الذين أحبهم. كنت أبحث عن جزء من نفسي، لكنني لم أجد سوى ظلٍ يلاحقني، يذكرني بأنني كنت دوماً وحيداً.
دعوني أستقر بجانب أبي، في ذلك المكان الذي يجمعنا، حيث يمكنني أن أضع رأسي على صدره كطفلٍ تائه، أستمع إلى نبضاته، وأشعر بحبه يحيطني كما كانت تفعل أمي. في ذاك المكان، سأكون أخيراً حراً من قيود هذه الحياة، من غربتي، ومن الوحدة التي عانيت منها طويلاً.
فإذا جاء ذلك اليوم، واحتاجت روحي إلى الرحيل، فلا تسألوا عني، بل انظروا إلى السماء، فهناك سأكون، بين النجوم، بين الأمل والحزن، بين الفرح والشجن، أبحث عن طريقي إلى السلام الذي لطالما حلمت به. سأظل أنظر إليكم من بعيد، كنسيمٍ حزين يمر عبر شجيرات الزيتون، أستمع لحديثكم وكأنني جزء من قصتكم، بينما أترك خلفي صفحات من الذكريات، ترقص على أنغام الرياح.