دموع الصمت: صرخات في وجه الظلم

بقلم: د. عدنان بوزان

لم يكن الألم يوماً ما يسقط دموعنا، فما الألم إلا زائر عابر يحمل في طياته مرارة الحياة، لكننا تعلمنا أن نتحمله وكأننا نحمل معه شارة البقاء. كنا نحتضنه بصمت، نذرفه في أعماقنا دون أن نبديه للآخرين. ولكن ما أبكانا حقاً، هو ذلك الظلم الجاثم على صدورنا، كجبل من الصخور يرزح بثقله على أرواحنا المنهكة. كان الظلم كالنار المستترة تحت الرماد، يحرقنا ببطء، يلتهم أحلامنا بصمت، دون أن يمنحنا فرصة للبوح، أو حتى لإنقاذ أنفسنا. أبكانا العجز عن الصراخ، عن التعبير، عن نطق الحقائق التي كانت تلتهمنا من الداخل.

كنا نرتدي أقنعة ملونة، وجوهاً مبتسمة تخفي خلفها حزناً لا يحتمله قلب. كنا نرسم ضحكات على شفاهنا، بينما تنزف قلوبنا من جروح لا تندمل. كنا نتظاهر بالقوة، ونتظاهر بالصبر، لكن في أعماقنا، كانت الأحزان تتراكم كغيمة ثقيلة، توشك على الانفجار في أي لحظة. وكنا ندرك ذلك، نعيه تماماً، لكن عندما تقترب اللحظات الحرجة التي تتطلب منا الشجاعة لنفصح عن أنفسنا، نصمت. تصمت ألسنتنا، وتخوننا الكلمات، وكأننا غرباء عن أرواحنا.

أبكانا ذلك الصمت الذي سكننا بعد معارك طويلة مع ذواتنا. ذلك الهدوء الذي بدا وكأنه انتصار، لكنه كان في الواقع هزيمة متخفية، قشرة هشة تخفي تحتها براكين الغضب والكبت. كنا نبني أسواراً من الصبر واللامبالاة، نحاول جاهدين أن نبدو أقوى مما نحن عليه، لكن الداخل كان يغلي، وصرخاتنا المكتومة كانت تعصف بنا، وكنا نعيش على حافة الانهيار، بينما نتمسك بقناع القوة المزيفة.

أبكتنا أحلامنا المبعثرة على أعتاب الشباب. كنا نحلم بعالم جميل، نحلم بمستقبل مشرق، ولكن كلما خطونا خطوة، اصطدمنا بجدران المجهول. كانت السبل كلها موصدة، وكان المستقبل يفر من بين أيدينا كحلم غافٍ، كنا نعيش في سجن من الأسئلة بلا إجابات، نسير في متاهة لا مخرج منها.

أبكتنا تلك التنهيدات الثقيلة التي تخرج منا مع كل خيبة، مع كل حلم أرجأناه، مع كل لحظة انتظرنا فيها شيئاً لم يأتِ. كنا نتنفس الحزن مع كل نفس، ونتجرع الانتظار حتى بات جزءاً من حياتنا، يسكن بين أنفاسنا كالقدر المحتوم.

وأبكتنا تلك السعادة التي ضاعت منا في ريعان شبابنا. كنا نظنها قريبة، بل قريبة جداً، حتى إذا ما حاولنا الإمساك بها، تلاشت بين أيدينا كالسراب. كنا نلهث وراءها في دروب مظلمة، نبحث عن ضوء يبدد الظلام، لكنها كانت تبتعد كلما اقتربنا، وبتنا نمضي في الحياة دون أن ندري ما إذا كان لنا نصيب منها.

في النهاية، لم يكن الألم هو ما أبكانا، بل كان العجز أمام هذا العالم القاسي، والصمت الذي فرضته علينا الحياة، والخوف من مستقبل بلا ملامح. لكننا تعلمنا أن البكاء ليس ضعفاً، بل هو صرخة ولادة جديدة، بداية رحلة بحث عن الذات التي ضاعت منا في زحمة هذا العالم.

أضف تعليق


كود امني
تحديث

X

تحذير

لا يمكن النسخ!