بين شروق التاريخ وغروب المستقبل: حكايات النيازك والقرن العشرين
بقلم: د. عدنان بوزان
اليوم صباحاً، تناولت فنجان قهوتي المعتاد، لكن تلك الجلسة لم تكن كباقي الجلسات. كانت لحظات مفعمة بشيء من السحر، حيث بدأت أنا ورفيقي نسرد حكايات الشهب والنيازك، وقصص شروق الشمس وغروبها. كانت الحكايات تتدفق كما يتدفق الضوء من السماء عند بزوغ الفجر، تتشابك بين الأساطير والحقائق، بين الملاحم التي نُسِجت عبر الزمن والذكريات التي تنحني أمام تدفق الحياة.
الشهب، تلك الكرات النارية التي تخترق السماء في لحظة، تذكّرنا بما هو عابر وسريع الزوال. كأنما تحمل رسالة خفية مفادها أن كل شيء في هذه الحياة له بداية وله نهاية، وأن ما نراه في تلك اللحظة اللامعة قد كان في طريقه إلينا منذ ملايين السنين. قهوتي بين يديّ تتصاعد أبخرتها، تشبه بخار تلك النجوم التي انطفأت لتضيء عالماً بعيداً. النيازك تسرد لنا قصص البدايات التي تسبق كل نهاية، وتذكرنا بأن الكون لا يزال يكتب تاريخه الخاص، ونحن في مكان ما داخل هذا السرد المستمر.
تحدثنا عن شروق الشمس وغروبها، تلك اللحظات التي تشهد ولادة النهار واحتضاره. في كل شروق، ينبعث نور جديد يحمل معه فرصة أخرى، حياة أخرى، طريقاً جديداً قد يختار المرء أن يسلكه. أما الغروب، فهو لحظة من التأمل، حين ينطفئ الضوء تدريجياً، وتبقى السماء شاهدة على نهاية يوم آخر، تتلوه لحظات من السكينة، وكأن الأرض تودع نورها وهي تستعد لاستقبال الظلمة.
لكن، كما هو الحال في كثير من الحوارات، لم نكتفِ بالتأمل في الكون والطبيعة وحدهما، بل سرعان ما أخذتنا النقاشات إلى التاريخ. تعمقنا قليلاً نحو بدايات القرن العشرين، ذلك القرن الذي شهد أهوالاً غير مسبوقة. كان زمن الثورات والحروب، حيث استيقظت الأمم على أصوات المدافع وانفجارات القنابل. كل شيء كان يتغير بسرعة، العالم ينهار من جهة ليُعاد بناؤه من جهة أخرى. ذكرنا الحربين العالميتين، وما خلفتاه من دمار مادي ومعنوي، شعور الإنسان بالعجز أمام القوى الكبرى التي تحركه كدمية. كانت الحقبة الاستعمارية تنسحب تدريجياً، لكن الأزمات الاقتصادية والسياسية تركت آثاراً لا تمحى.
تلك الأهوال لم تكن مجرد أحداث عابرة، بل كانت لحظات فاصلة في تاريخ البشرية. كيف تغيرت خريطة العالم، وكيف بدأت القوى الكبرى في إعادة رسم الحدود وتحريك الشعوب، وكأن العالم كان مسرحاً مفتوحاً لصراعٍ لا ينتهي. في منتصف القرن العشرين، ظهرت مشاريع الأمل والتقدم، تطلعات إلى حداثة تقود الإنسان نحو مستقبل أفضل، أو هكذا ظننا. كنا نعتقد أن البشرية قد تعلمت من تلك الفصول الدموية، وأنها قد باتت مستعدة لمواجهة تحديات المستقبل بروح جديدة، لكنها سرعان ما انحرفت عن الطريق.
وقارنّا تلك البدايات القاسية بنهايات القرن، التي ازدحمت بمشاريع جديدة تُعِدّ لمنطقة الشرق الأوسط. كيف أن العالم، في تلك الفترة، كان يُعيد ترتيب أوراقه من جديد. تلك المشاريع لم تكن إلا إعادة تدوير للتاريخ، حيث تمثل شعوب الشرق الأوسط جزءاً حيوياً في تلك اللعبة الكبرى. وكأن الماضي كان يكرر نفسه في دورة أبدية. اليوم، كما كان بالأمس، هناك قوى كبرى ترسم خرائط جديدة، تقرر مصائر شعوب بأكملها، بينما يعيش الناس في يومياتهم غير مدركين حجم التغيير الذي يُنسج خلف الكواليس.
تلك المشاريع الشرق أوسطية، من "الشرق الأوسط الجديد" إلى "العولمة" وما تلاها من تحولات جيوسياسية واقتصادية، هي انعكاس لصراع أكبر بين القوى العالمية. أصبحنا نعيش في عالم تتلاطم فيه الأفكار والطموحات، حيث تتداخل المصالح الدولية وتتصادم، محولة الأرض إلى مسرح يعج بالفوضى والصراعات. كما كانت نهايات القرن العشرين مزدحمة بالتغيرات والمشاريع، فإن بداية القرن الحادي والعشرين تحمل في طياتها نفس التحديات. وكأنما لم نتعلم شيئاً من الماضي، أو أن البشرية قد اختارت أن تسير في ذات المسار، رغم كل الدروس القاسية.
ووجدنا في لحظة تأمل وصمت أن "ما أشبه الأمس باليوم!" كأن التاريخ، بجبروته وصموده، يرفض أن يترك لنا فرصة للتغيير، يعيد نفسه في صور مختلفة، لكنه يحمل نفس البذور. الأزمات تتكرر، الحروب تندلع، والإنسان لا يزال يقف في وجه عواصف القدر بنفس العجز والضعف، وكأن لا شيء تغير سوى الوجوه واللباس.
ووسط هذه التأملات، شعرت أنني أقف على عتبة مفارقة كبيرة، بين عالم يسير نحو المستقبل دون أن ينسى الماضي، وبين شمس تغرب لتشرق من جديد، حاملة معها وعداً بالاستمرارية والخلود. كل شيء في هذا العالم هو دورة أبدية لا تنتهي، شروق بعد غروب، وحروب بعد سلام.
قهوتي بردت قليلاً، لكن الحديث لم يفقد حرارته. كل كلمة تنقلنا إلى عمق أعمق من الذي سبقه، وكأننا نبحث عن معنى ما في هذا الكون الفسيح. ومع نهاية الجلسة، بقيت أفكر: هل نحن فعلاً أسياد مصيرنا، أم أن هناك قوة خفية، كما تلك التي تقود الشهب في مسارها، تحركنا نحو مصير لا نملك تغييره؟
في صباح ذلك اليوم، أدركت أننا لسنا سوى حكايات قصيرة في سرد أكبر، سرد يشمل الكون والتاريخ والمستقبل. وسواء كانت قصتنا تروي تفاصيل الشهب والنيازك، أو قصص شروق الشمس وغروبها، أو حروب القرن العشرين ومشاريعه الشرق أوسطية، فإننا في النهاية جزء من هذا السرد، نشارك في كتابته بينما نعيش فيه.