عندما يتكلم الصدى ويصمت العقل

بقلم: د. عدنان بوزان

في عالمٍ يضجُّ بالأصوات، حيث يتكلم الجميع، يصرخون ويهتفون، تتلاشى الحقيقة وسط ضوضاء التكرار. تجد الأفكار، مهما كانت ضحلة أو سطحية، سبيلها إلى قلوب الجموع كأنها سيلٌ هادر، يغمرهم بكامل هيبته، حتى يخيل إليك أنها تحمل شيئاً من العمق والحكمة. ولكن، هل يصبح الوهم حقيقة إذا ردده ملايين البشر؟

إن الكلمة الخاوية تظل خاوية، ولو غلَّفتها الأصوات بالقداسة. فالقيمة لا تُكتسب من كثرة الأفواه التي تتبناها، بل من نبعها العميق في النفس الواعية. لكننا، في هذا العالم الحديث، غرقنا في طوفانٍ من الأفكار السطحية، تلك التي لا تتجاوز القشرة البراقة ولا تغوص في الأعماق. كأن الزمن صنع تمثالاً لأفكار مكررة، يدور الناس حوله بإعجاب، غافلين عن أن العمق الحقيقي يتطلب تفكيراً واعياً، لا مجرد صدى أصوات الجموع.

كل فكرة، مهما بدا بريقها للوهلة الأولى، تحتاج إلى ميزان العقل لتقييمها، كما يحتاج النهر إلى مصدر نقي ليحافظ على صفائه. ما نراه في هذا العالم ليس إلا صدىً دائماً، حيث يتحول صوت الفرد إلى أصوات الملايين، ويغرق العقل في دوامة التكرار الممجوج. لقد أضحى الكذب مغلفاً بالتصفيق، والفراغ محاطاً بأكاليل الاحتفاء.

ولكن، ما قيمة العدد حين تكون الروح خالية من التأمل؟ عندما يصرخ ألف صوتٍ بنفس الجملة الفارغة، تظل الكلمة خاوية، تمضي كما لو كانت طيفاً باهتاً، تتغذى على رائحة الشهرة الفانية. إن الوعي الفردي هو الذي يثري الفكر، بينما تبقى الجموع كأصداء مترددة في فراغ لا نهاية له.

لذا، لا تخدعك الأعداد، ولا تغرك الأصوات المتعددة. الأهمية تكمن في الأصل، في العمق الذي تنبع منه الفكرة، في قدرتها على استفزاز الفكر ودعوة العقل إلى التأمل. ففي النهاية، لا يملك العالم أن يقرر حقيقة شيء بناءً على عدد المتكلمين به، بل بناءً على وزن المعاني التي يحملها في أعماقه. وكم من فكرة ظن الناس أنها حق، لكنها تهاوت تحت ثقل الزمن والعقل، مثل رمادٍ في مهب الريح.

أضف تعليق


كود امني
تحديث

X

تحذير

لا يمكن النسخ!