رسائل الخريف بين تجاعيد الزمن
بقلم: د. عدنان بوزان
في كل لحظة يمرّ فيها الخريف، يصحو في القلب شعور الحنين، ذلك الإحساس الذي يلامس أعماق الروح كأوراق الشجر التي تهوي من الأغصان في هدوء متناهٍ. إنه فصل الحكايات القديمة، حيث تتحول الأرض إلى ساحة ذكريات تتجدد مع كل نسمة تعبر الأفق. الخريف ليس مجرد موسمٍ عابرٍ في السنة، بل هو رسائل غير مرئية تتناثر بين غصون الأشجار، وتحمل في طياتها أشواقاً دفينة ووجعاً لا يمكن أن يُنسى.
في كل ورقة تسقط، نرى قصةً تُكتب بلغة صامتة. تلك الورقة التي كانت يوماً ما خضراء، رمزاً للحياة، أصبحت صفراء، رمزاً للوداع. إنها قصة الانتقال من الشباب إلى الشيخوخة، من البدايات المفعمة بالحيوية إلى النهايات الهادئة. وعندما تهوي على الأرض، تحمل معها ثقل الزمن والذكريات التي تجمعت عبر السنين. صوت الأوراق وهي تتكسر تحت الأقدام يعيد إلى الأذهان أصوات الضحكات التي كانت تملأ المكان في الماضي، وضحكات أخرى لم تعد سوى صدى بعيد، مثل أحلامٍ تلاشت في غياهب الزمن.
الرياح التي تمرّ بين الأشجار كأنها أنفاس الأيام الغابرة، تلامس بشرتنا برفق لتذكرنا بتلك الليالي التي قُضيت تحت ضوء القمر، تلك الليالي التي كانت مليئة بالوعود والتوقعات. لكن الرياح لا تحمل لنا سوى برودة تشبه برودة المشاعر التي تجمدت مع مرور السنين. إن الخريف يذكرنا بأن لكل شيء نهاية، حتى أكثر اللحظات دفئاً تذوب في ثنايا الزمن، تاركةً وراءها إحساساً بالفقد.
تتحرك الأغصان كأيدٍ تودع من تحب، لكنها لا تملك سوى انتظار دورة الحياة التي لا تتوقف. الأوراق تهمس بعضها لبعض، وكأنها تعلم أن الفراق قريب. هذا الحوار السري بين الشجر والريح يروي قصصاً لا يسمعها إلا من ذاق طعم الفراق، وفهم تلك اللغة الصامتة التي تتحدث بها الطبيعة في فصل الخريف.
على الأرصفة، تتناثر تلك الأوراق وكأنها رسائل كتبت بدمع الحنين. رسائل تحمل في سطورها كلمات لم تُنطق، مشاعر لم تُفصح، وأشواق لم تكتمل. تساقط الأوراق يشبه وداعاً لم يكن مرغوباً، لكنه كان محتوماً، وداعاً يأخذ معه جزءاً من القلب، ويترك خلفه فراغاً لا يملأه شيء. كأن الأشجار تقول لنا: "كل شيء سيمضي، حتى نحن."
لكن وسط هذا الحزن، ينبعث شعور دافئ من عمق البرودة. هناك شيء ما في الخريف يجدد الأمل في النفوس، كأنه يقول إن الحياة لا تتوقف عند الفقد، بل تتجدد كما تتجدد الفصول. حتى في أقسى لحظات الفراق، هناك وعود بمستقبل آخر، بربيع سيأتي بعد الشتاء، وبزهر سيتفتح بعد الخريف.
وهكذا، تكتب الطبيعة قصتها لنا في الخريف. قصة مليئة بالحنين، بالوداع، وبالتجدد. ورغم الحزن الذي يغمرنا مع تساقط الأوراق، نعلم في أعماقنا أن هذا التغير جزء من دورة الحياة، وأن في كل نهاية بداية جديدة.