عندما أموت، لا تدفنوني تحت التراب

بقلم: د. عدنان بوزان

عندما أموت، لا تدفنوني تحت التراب. لا أريد أن يحتضنني برد الأرض ولا أن يطوقني صمت المقابر. أنا الذي قضيتُ عمري أبحث عن دفءٍ يحيي قلبي المرهق، كيف لي أن أُسجَن في حضن التراب الذي لا يسمع النداء ولا يحتضن سوى الغياب؟ أرجوكم، أحرقوني، دعوا رمادي يتلاشى مع الريح، لعل القدر ينثرني كما نثر أيامي خلف وهمٍ أسميته حباً، حتى انطفأت أنفاسي وانفصلت روحي عن جسدي.

لقد تعبتُ، أيها القدر، تعبتُ حد الانهيار. كنتُ أركض خلف سرابٍ صنعتَه بيديك، أحببتُ حتى استُنزفت دقات قلبي وصارت خطواتي آثاراً دامية على طريقٍ لا ينتهي. كنتُ أؤمن أن الحب نجاة، فإذا به يغدو بحراً غدّاراً، يغرق كل من اقترب منه أكثر مما يجب.

تأخرتُ كثيراً خلف حبك، يا من كنتِ وهجاً في ليل حياتي المظلم. جعلتِني أتعثر في طرقات العمر الوعرة، حيث لم تكن حياتي إلا سلسلةً من الأوتار التي قطعتها يد القدر واحداً تلو الآخر. لم يبقَ في روحي لحنٌ يواسيها، ولا في صدري نبضٌ يعيدها إلى الحياة. أتعرفين كم مرة نظرتُ إلى السماء مستغيثاً، وكم مرة جلستُ على حافة هاوية أنتظر يداً تمتد إليّ؟

كنتِ دائماً هناك، كطيفٍ بعيد، تلمعين كنجمةٍ بعيدةٍ في عتمة وجودي. لكن كلما حاولتُ الإمساك بكِ، كنتِ تختفين، تاركةً قلبي يتأرجح بين الأمل والخذلان. الحب الذي وعدتِني به كان كالنور في نهاية نفقٍ طويل، لكنه لم يكن يوماً قريباً بما يكفي. ظللتُ أركض، حتى نزفتُ كل قوتي، وها أنا الآن أقف أمامكم، بلا شيء، سوى ذكرى تعبٍ لا ينتهي.

عندما أموت، لا تبكوا عليّ، ولا تحملوا معي وروداً تذبل فوق قبرٍ لن يكون. دعوا الريح تحملني بعيداً، فقد عشتُ حياتي كلها أبحث عن مكانٍ أنتمي إليه ولم أجد. ربما أجد في تناثر رمادي بين أحضان الريح سلاماً لم أذقه في حياتي. دعوا رمادي يعانق البحر أو يرقص فوق قمم الجبال، لعله يجد هناك إجابةً لكل أسئلتي التي بقيت دون جواب.

أيها الحب، يا قدراً أرهقني وأحرق روحي، الآن أتركك. لا أتركك غضباً أو سخطاً، بل إرهاقاً. إرهاقاً يجعلني أتوق للرحيل بهدوءٍ، دون دموعٍ أو وداع. افهموا طلبي الأخير: لا تدفنوني تحت التراب، لا تجعلوا الأرض آخر فصول حكايتي. لقد عشتُ حياتي أبحث عن السماء، فدعوني أعود إليها.

احرقوني، ودعوا رمادي يختلط بهذا الكون الواسع. دعوا ذراتي تراقص الريح، لعلها تصل إلى حيث عجزت قدماي عن الوصول. دعوني أتحرر أخيراً من أثقال الحياة التي كبّلتني. ففي الموت، كما أؤمن، يكمن السلام الذي طالما حلمتُ به ولم أذقه يوماً.

أضف تعليق


كود امني
تحديث

X

تحذير

لا يمكن النسخ!