بكاء الروح في أرض الظلم

بقلم: د. عدنان بوزان

في تلك الأرض المنسية، حيث تصرخ العدالة ولا يسمعها أحد، وحيث تنحني الشمس خجلاً أمام قسوة القلوب، وُلدت الأرواح تحمل ثقل الظلم كأنها وريثٌ أزلي لعذاباتٍ لا تنتهي. هناك، بين طيات التراب الذي امتص دماء الأبرياء، تبكي الروح، لا بصوتٍ يُسمع، بل بنداءٍ صامت يحفر أعماق الكون كوشمٍ من الحزن الخالد.

كانت الأرض تشهد كل شيء، شاهدةً صامتةً على الأوجاع التي تتكاثر مثل أمواج البحر، تضرب الشواطئ ولا تهدأ. هناك، حيث تسقط الكلمات أمام قسوة الأفعال، تشعر الروح كما لو أنها عصفورٌ حبيس قفصٍ من حديد، تُحرَم من التحليق، وتُجبَر على مشاهدة السماء من بعيد. كيف يمكن للسماء أن تبدو واسعةً وفي الوقت نفسه موصدةً أمام الأمل؟

في أرض الظلم، تنقسم الأرواح بين من رضخ للواقع ومن حمل على عاتقه نار المقاومة. أما الروح الباكية، فهي ليست من أولئك الذين ينهارون، ولا من أولئك الذين يحاربون بصوتٍ مدوٍ؛ إنها روحٌ عالقة بين الاثنين، تحمل الألم وكأنه جزءٌ منها، كوشمٍ لا يمكن محوه.

تبكي الروح في صمتٍ يقطّع القلب. تبكي على أحلامٍ ضاعت في غياهب الطغيان، وعلى أصدقاءٍ اختفوا في عتمة الزنازين، وعلى أغانٍ كانت تُغنّى في ليالٍ مفعمة بالحب، لكنها الآن مجرد أصداء تختنق تحت وطأة القهر. تبكي على أرضٍ كانت يوماً خصبةً، فأصبحت جرداء، تحمل فوقها أقداماً لا تعرف الرحمة.

لا يقتصر بكاء الروح على الدموع. فهي تبكي حين يخذلها الزمن، حين ترى الضعفاء يئنّون ولا تجد ما يداوي جراحهم. تبكي حين ترى الأطفال يلهون تحت قصف القذائف وكأنهم وجدوا في الحرب لعبةً جديدة، وحين تتلمس في عيونهم البراءة التي اغتصبها الألم. تبكي حين تسمع صدى الضحكات التي تحولت إلى أنين، وحين ترى الأمل يسقط أمام جدار الصمت الذي بناه الظالمون.

لكن الروح، رغم كل البكاء، تبقى قوية، تحمل في دموعها بذور النور. ففي عمق الألم، توجد حكمةٌ خفية. الروح تدرك أن الظلم ليس سوى سحابةٍ عابرة، مهما طالت. تبكي الروح، لكنها تعلم أن في داخلها شرارةً، وإن بدت صغيرة، فهي قادرة على إشعال ثورة.

تبكي الأرض، كما تبكي السماء. الليل يطول في أرض الظلم، لكنه لا يستطيع أن يبتلع الفجر. ومع كل دمعةٍ تسقط من الروح، تنمو بذرةٌ خفية، ربما لن تُرى اليوم، لكنها يوماً ما ستشقّ الظلام وتعلن ميلاد العدالة. وفي ذلك اليوم، حين يتوقف بكاء الروح، لن يكون ذلك لأن الألم انتهى، بل لأن النور انتصر، والظلم انهار تحت وطأة الحقائق التي لا تُقهر.

في النهاية، تبقى الروح الباكية شاهدةً أبدية على أن الألم ليس ضعفاً، بل لغةُ الحياة حين تكتب أعمق قصائدها، وأن كل دمعةٍ، مهما بدت وحيدة، هي جزءٌ من نهرٍ سيغرق الظلم يوماً ما.

أضف تعليق


كود امني
تحديث

X

تحذير

لا يمكن النسخ!