سوريا: ملح يذوب تحت المطر

بقلم: د. عدنان بوزان

سوريا، تلك الأرض الطيبة التي احتضنت حضارات الشرق القديم، واحتفظت في ذاكرتها سحر التاريخ ومآسيه. هي ملحٌ يذوب تحت المطر، ملحٌ استُخرج من صخور الجبال وحقول القمح، ملحٌ حمل أجيالاً من الفخر، يذوب الآن في وجه الرياح العاتية. ملحٌ يذوب، لكن هل يموت أم يُولد من جديد؟ هل يبقى أثره على التربة التي كان يغذيها، أم يختفي ويترك وراءه فراغاً لا يُملأ؟

في قلب سوريا، حيث يلتقي الزمان بالمكان، وتلتقي الذكريات بأحلام المستقبل، هناك صوتٌ يهمس في أذنك: "لقد تغيرت كل الأشياء، لكننا ما زلنا هنا." هنا، في هذه الأرض التي شهدت أزمنة من المجد والخراب، تجد أن الرياح التي مرت عليها قد غيّرت كل شيء. حتى الملح الذي كان يزين الأرض ويغذيها بدأ يذوب تحت المطر.

إنه المطر، الذي لا يأتي فقط ليغسل الغبار، بل ليطهر كل شيء، ليزيل كل ما تراكم فوق الذاكرة من تراب الحروب والأحزان. ولكن هل يُطهر المطر؟ أم أنه يجعل الذوبان أكثر قسوة، ويترك الفقد أكثر وضوحاً؟ لقد جاء المطر، كأنه يتحدى ثبات الأرض، كأنه يعيد تشكيل سوريا من جديد. في كل قطرة من الماء تتناثر الذكريات، وكل قطرة تجعل الملح يذوب شيئاً فشيئاً، حتى لا يبقى منه سوى الأثر، أثر لن يمحى أبداً.

في هذا الذوبان، تجد سوريا نفسها كما لو كانت تذوب معها. تلك الأرض التي كانت تشهد على أصوات المجد، أصبحت الآن مسرحاً لصمت رهيب. في كل زاوية، تجد أصداء أصوات المقاتلين، أصداء المظلومين، أصداء من لا يجدون طريقاً للهروب من ألمهم. في هذا المطر الذي يذيب الملح، تجد أن ما كان ثابتاً أصبح هشاً، وما كان مقدساً أصبح ضائعاً بين أطياف الذاكرة.

ولكن رغم كل هذا، هناك شيء في سوريا لا يُذيبها المطر. هناك شيء في تلك الأرض لا يستطيع الزمن أن يمحوه. في كل شجرة، في كل حجر، في كل زاوية من هذه الأرض، ما زالت الروح السورية حية. ربما تبدو سوريا اليوم كأنها ملح يذوب تحت المطر، ولكن في عمق هذا الذوبان، هناك رغبة في الحياة، رغبة في النهوض من جديد.

إن هذا الذوبان ليس نهاية، بل هو بداية لشيء جديد. لعل المطر هو الذي يصقل الجواهر المختبئة في أعماق الأرض، لعل الذاكرة التي تسكن في صمت الجبال والسهول ستعود لتسطع من جديد. في ذوبان الملح، يترسخ الفهم العميق: إن سوريا ليست مجرد مكان، بل هي هوية، هي قصة لم تنتهِ بعد.

وإذا كان الملح يذوب تحت المطر، فإن النهر نفسه، مهما جرفه، يعود ليجد طريقه. وما نراه من دمار هو فقط مرحلة مؤلمة، مرحلة تصفية الحسابات مع الماضي، مع الذات، مع النظام. ولكن التاريخ لا يرحم، والذاكرة لا تُنسى. وفي قلب هذه الأرض، هناك شريان حي ينبض بالحياة، ينبض بالأمل، مهما كان هذا الأمل غائباً عن الأفق.

سوريا، في هذا الذوبان، تجد نفسها في معركةٍ أخيرة. معركة بين الذكريات والتاريخ، بين الرغبة في البقاء والقدر الذي يصر على التغيير. لكن في كل لحظةٍ من لحظات المطر، هناك تأكيد أن سوريا ستعود، في شكلٍ جديد أو قديم، لكن الأهم أنها ستبقى. كما أن الملح، مهما ذاب تحت المطر، يظل يترك أثره في الأرض، فإن سوريا ستترك أثرها في قلب العالم، في ذاكرة كل من عرفها، وعاش فيها، وأحبها.

إنها الأرض التي ما زالت تحتفظ بصمتها، وما زال الصمت يحمل بين طياته ألوان الحياة التي قد تعود. مهما كان الألم، مهما كانت الجراح، فإن سوريا ستظل هي المكان الذي لن ينساه أحد، لأنها هي الملح الذي يذوب تحت المطر، ويبقى عطره في الهواء، ويبقى أثره في الأرض، ويبقى أملها في قلب كل من يؤمن بأنها ستعود.

أضف تعليق


كود امني
تحديث

X

تحذير

لا يمكن النسخ!