بقلم: د. عدنان بوزان
على هامشِ العالم، حيث يصغر الليلُ ويطولُ الأمل، نسيرُ نحن — اثنانِ ضوءٍ محشورانِ في جيبِ الظلام — نحملُ في كفنا قطعةَ خبزٍ كأنها عهدٌ قديمٌ بيننا وبين الحياة. فالخبز عندنا ليس طعاماً فحسب، بل سجلٌّ للصبر، ومِرآةٌ تقرأ وجوهَنا الصباحية. نمسكُ الزمنَ ببطءٍ كما يمسك الفقير خبزه: بعينٍ حارسةٍ لا تقبل التفريطَ، وبلمسةٍ تحوِلُ لقمةَ العيشِ إلى قدرٍ من الكرامة.
أنتَ علمتني أسماءَ الريحِ: كيف تَسيرُ العواصفُ في الشوارع، وكيف تخبئُ الجيوبُ أسرارها. وأنا علمتكَ أسماءَ الجوعِ والندى: كيف ينساب الصباح على أطرافِ الخبزِ، وكيف يصرخُ الفمُ بلا صوتٍ حين تخونه الكلمات. بيننا تبادل من لغةٍ غير مرئية: أنتَ تهبني الفَضلةَ، وأهبكَ أغنيتي. هكذا نسيرُ — لا بحثاً عن رحيلٍ ولا عن عودةٍ — بل لأن أقدامنا تكثرُ السؤالَ مع كل خطوةٍ، وكأن السؤالَ نفسه غذاء لا بدّ منه.
تحمل أقدامنا في كعبِها شُعَبَ الضوءِ الصغيرة، وتترك وراءها ظلالاً تشبه قصائدنا: حروفاً مرسومةً على رملِ المدينةِ قبل أن تنطق. وفي اليدِ الأخرى خبزٌ، وفي اليدِ الأخرى أغنيةٌ. نقسمهما كما تقسم القوافلُ ماءَ الواحة: بطيبةٍ لا تعرف الحساب، وبإحساسٍ عادلٍ يسبق كل قانونٍ. هكذا كنا نتعلّمُ معنى المشاركة: ليست تجارةً بل طقساً مقدساً نقيمه كل مساءٍ على طاولةِ الأرض.
لم نسألِ الطريقَ عن اسمِه، فالطرق أسماءٌ نحن مَن يمنحها. لكننا سألناه عن ساعةِ الميلادِ التي تنجب فينا وحشَ الحنين: متى يولدُ هذا الحزنُ اللاصقُ بالصدرِ كلما رأينا دخانَ مدينةٍ يذوب على شفاهِنا؟ ولم نسألِ الوطنَ إن كان معنا أو ضدنا؛ بل سألناه عن طعمِ رغيفِنا على لسانِ الصباح. فما أصدقَ الأوطانَ حين تقاسُ بطعمِ الخبز!
أحبكَ حب القوافلِ: حبٌّ لا يحصرُ بالكلمات، لأنه مثقلٌ بذراتِ خبزٍ وأسماءِ رجالٍ ماتوا وهم يحلمون. حب يحنُّ إلى العودةِ كما يحنُّ السفرُ إلى أصله، ويعودُ محملاً بما لا يحصى. أحبكَ كما يحبُّ الفقيرُ رغيفَه: بامتنانٍ يفضحه النفسُ، وبخشوعٍ يكسرُ عزلةَ الجوع، وبعنايةٍ تلمسها الأصابع البالية.
نغني لأن الصمتَ عندنا لا يثمرُ خبزاً ولا ماء. الأغنيةُ عندنا زراعةٌ، وليست ترفاً؛ نغني لنرى كيف ينبتُ العشبُ بين مفاصلِ الصخر، لنرى كيف يعيدُ البحرُ كتابةَ أسماءِ الشهداءِ على شاطئِه. أغنياتنا مطرٌ متأن: لا يبتلُّ الوجوهَ فقط، بل يعلمُ الأرضَ كيف تستضيف الغريب.
يا رفيقَ الدروب: كم مرةً صرخنا بلا صوت؟ كم مرةً غسلنا الليلَ عن قفازِنا لنقبّلَ أرضاً لم تعرِفنا؟ هناك، في منتصفِ الطريق، نعلمُ الشجرَ كيف ينسى موسمَه ليعطي ثماره لطفلٍ غريبٍ جاء من الدربِ الآخر؛ نعلّمُ النسيانَ أن يكونَ سخاءً، والرحيلَ أن يكونَ عطوفاً، والصبرَ أن يثمرَ رغم قسوةِ التربة.
أنتَ في داخلي خريطةُ مدينةٍ لا تصلح للاستعمال: خريطة مطويةٌ على شكلِ رغيف، تخفي في طياتِها وعي الهزيمةِ والأمل معاً. وأنتَ قصيدةٌ لم تكتَب بعد: قصيدةٌ تحملُ رائحةَ المطرِ والأجنحةِ وصوتَ النوافذِ في صباحِ الشتاءِ. نصفُ سطرٍ منك قد كُتبَ، ونصفه الآخر ينتظرُ أن نكملهُ معاً على شاطئٍ لا تعترفُ به الخرائط.
نحن كائنانِ نشرب الوهمَ كأساً، ونؤمن أن الغدَ يحملُ مفاتيحَ البيوتِ المغلقة. نؤمنُ أن كل أغنيةٍ تروى تعيدُ إلينا شيئاً من الوطن: حافةَ بابٍ، رشةَ ضوءٍ، رقعةَ أرضٍ لم نزرعها بعد. فالحكاياتُ الصغيرةُ تاريخٌ موازٍ، تكتَبُ لا في سجلاتِ الدولة، بل في ذاكرةِ الجسدِ والخبز.
كل مساءٍ نعلقُ على صدرِ السماء ملصقاً: هنا عاشَ اثنان، جاءا قبل المطرِ وبعدَه، خرجا من فمِ المدينة كقطعتَي خبزٍ وسارا بلا عذر. لا هرباً ولا بحثاً، بل لأن السيرَ نفسه يفلِقُ الألمَ إلى نصفينِ ويحولُه ذكرى قابلةً للرواية.
لا نبحثُ عن أغاني البكاءِ في دواوينَ قديمة، فهي أحياناً تقتلُ الأمل. نحن نصنعُ أغانينا من بقايا الأيام: شظايا ضوء، رغيفٌ بارد، ورقةُ شجرٍ عليها توقيعُ الغياب. ونسألُ الحبَّ: هل تبقى؟ فيجيبُ الحبُّ بغناءٍ لا يسمعه سوانا.
أحبكَ — لا حباً سهلاً — بل حباً يقتطفُ من الحجرِ وردة، حباً يعيدُ ترتيبَ النجومِ كما يعيدُ مزارعُ العصافير ترتيبَ أعشاشِها. أحبكَ كما يحلمُ الليلُ بفجرٍ يولدُ من رحمِ الحريق: حلمٌ يختارُ الجمالَ رغم الدخان والخراب.
نرسمُ مستقبلنا بملعقةِ عشب، نخط اسمَينا على جدرانِ الرمل، وننتظرُ الريحَ لتقرأهُ للبحر. نزرعُ خبزاً في زوايا القلوب لئلا يجوعَ أحدٌ إلى الكلام. نقسمُ الظلالَ كما يقسّمُ الخبزُ في غرفةٍ صغيرة، فحتى الظلالُ تستحقُّ نصيباً من العدل.
تعالَ نَقفُ عند بابِ العالمِ الأخير، حيث تعانقُ الأمواجُ أقدامنا، وحيث تعلمنا الأرضُ كيف نخبئُ الحنينَ في جيوبِنا. لن نختفي، بل سنمضي لنرى كم من أغانٍ يستطيعُ العشبُ أن يخبئ، وكم من خبزٍ يكفي لصلاةِ وداع.
نحن رفيقانِ لأن العالمَ لا يكفيه واحد. الرغيفُ يحتاجُ إلى يدَينِ ليقسم، واللحنُ يحتاجُ إلى فمَينِ ليغنى، والليلُ يقسو إن بقي وحيداً، لكنه يصبحُ حنوناً إن غنينا له معاً.
أحبكَ: حب قافلةٍ، حب فتحِ بابٍ على ما لم يخترع بعد، حب يعلمُ الخريطةَ أن تضحك في وجه الضياع. أحبكَ كما تحبُّ الأرضُ المطر: لا لتبتلَّ وحدها، بل لتطعمَ الزرعَ والذكرى.
وفي آخر الطريق — إن وجد — سنجلسُ على حصيرٍ لا يباعُ ولا يشترى، نقسمُ خبزاً صغيراً، وندفن بين ضحكاتِنا شيئاً من الحنين، ونخبئ اسمَ المدينةِ في صدورِنا كما يخبأُ الحبُّ: صغيراً، حَرِجاً، لا يطلبُ سوى أن يكون.
هكذا — معكَ — يصبحُ العالمُ خبزاً وأغنية: حبتانِ من هواءٍ ثابتتانِ في وجه العاصفة. نمضي معاً — ليس لأن النهايةَ معروفة، بل لأن خطواتِنا اختارت أن تكون معاً. وفي الهامشِ أكتبُ اسمَكَ: حرفٌ يشبه رغيفاً، وحرفٌ يشبه نجمةً. ولن أُخفي عنكَ الحقيقة: أنتَ رفيقُ الخبزِ والأغنية، وأنتَ — دائماً — بيتٌ لا يسألُ عن عنوانه.